تعرف الأحياء الجديدة في الجزائر، معارك متجددة بالسلاح الأبيض، بين الآتين الجدد والسكان القدامى، لأسباب تتعلق بعدم التجانس بين الطرفين
يرفض كثيرون الدعوات إلى زيارة بلدية سي مصطفى (64 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة). ويرفقون مع الرفض عبارة "لسنا بحاجة للمشاكل". عبارتهم تختصر الاضطرابات التي تشهدها البلدية، منذ مطلع العام الجاري، بسبب رفض سكانها قرار الحكومة إقامة أحياء سكنية جديدة، تستفيد منها عائلات مستقدمة من منطقتي الحراش والرغاية التابعتين لمحافظة العاصمة.
وعلى الرغم من تبرير والي العاصمة عبد القادر زوخ هذا الإجراء بعدم توفر عقارات في محافظته، ودعوته إلى التعايش باسم الانتماء إلى وطن واحد، ووعد والي بومرداس المحافظة التي تتبعها بلدية سي مصطفى، كمال عباس بتخصيص شطر من هذه المساكن لشباب المنطقة، إلاّ أن السكان أصروا على الرفض. حجتهم في ذلك رغبتهم في الحفاظ على انسجام نسيجهم الاجتماعي، وخوفهم عليه من التفكك بسبب استقدام عائلات غريبة عنه، تحمل معها ذهنياتها وطقوسها المختلفة، والأكثر من هذا، نزعة شبابها إلى العنف.
ظهراً، داخل البلدية التي تأسست عام 1850 وتحمل اسمها الحالي تكريماً لأحد الثوار البارزين، تصل الزحمة إلى ذروتها، بالتزامن مع انتهاء الدوام، ووقوع المدينة على الطريق الوطني المؤدي إلى مدينة تيزي وزو. تتجاوب المجموعات الشبابية المعنية بتنظيم التظاهرات الاحتجاجية الرافضة لهذا الترحيل. هم يعتبرون أنّ الصحافة نافذتهم الوحيدة، لإيصال أصواتهم، بعد إصرار الحكومة على تنفيذ مشروعها.
يقول فيصل ل. الطالب الثانوي إنهم لا يرفضون استقبال عائلات جديدة في مدينتهم من باب التمييز: "نحن شعب واحد، لكننا نخاف من العنف الذي سيمارسه شباب هذه الأحياء الطارئة، فقد خبرنا طبيعتهم في اللقاءات الكروية، إنهم يستمتعون بتحويل كلّ تجمع إلى معارك ومشاغبات". يضيف: "إذا كنا نتعرض للضرب على أيديهم في أحيائهم القديمة، فماذا ننتظر منهم، وهم يقيمون بيننا؟".
يتدخل خالد ش. أستاذ اللغة الفرنسية: "لماذا نتحدث كما لو أنّ الدولة غائبة؟ إنّ هذه الأحياء ستكون خاضعة، مثل غيرها، لسلطة المؤسسات الأمنية، وما على الذي يخطئ إلاّ أن يتحمّل مسؤوليته". يقول إنّه يشعر بالاستياء عندما يشاهد استقبال الأوروبيين لآلاف المهاجرين الذين يختلفون عنهم إلاّ في إنسانيتهم، في مقابل رفض جزائريين لمواطنين مثلهم، يشتركون معهم في كلّ القيم. يضيف: "على الحكومة أن تكون جادة في وضع حد لهذه النزعة، وإلا تفكك المجتمع، وأصبحت سلطة العصابات أقوى من سلطة الدولة".
بدوره، يقول حسين م. الذي يدير إحدى الفرق المسرحية التي تشتهر بها المدينة: "علينا أن نقرأ هذا الرفض في سياقه الموضوعي. السكان هنا يسمعون يومياً عن عشرات المعارك التي تنشب بالأسلحة البيضاء، بين شباب العائلات المرحّلة حديثاً وشباب العائلات الأصلية، وهي معارك لا تخلو من جرحى وقتلى. يجب كذلك ألا ننسى تجربة الإرهاب المسلح التي عاشتها المنطقة في تسعينيات القرن الماضي، والتي قتل فيها العشرات من أبناء المنطقة، على أيدي شباب غرباء".
لا يجد الشاب نزيم. أ حرجأ في الاعتراف لـ"العربي الجديد" أنّه كان يرفض، من قبل، خروج تظاهرات في مدينته، رفضاً لاستقبال عائلات استفادت قانونياً، من مساكن جديدة. لكنه راجع موقفه، بعد التجربة التي عاشها ابن خالته: "لقد فر بجلده إلينا، بعد معركة شارك فيها في المدينة الجديدة بقسنطينة".
بعد ذلك الاجتماع في مبنى البلدية بثلاثة أيام، تتمكن "العربي الجديد" من الوصول إلى الفتى المقصود. هو متخفٍّ لدى أقاربه منذ شهور، حماية له من تهديد بالقتل وصله، ويخاف أن يحتك بالصحافة كي لا ينكشف أمره. لكنّ حرصه على تمرير ما يسميها نصيحة للحكومة، يدفعه للموافقة على اللقاء، بعد اشتراطه عدم ذكر أدنى إشارة تدل عليه.
يقول إنه ليس مطلوباً من الشرطة، بل من شباب أصليين في الحي الذي تمّ ترحيل عائلته إليه، بعد معاناة مع أزمة سكن دامت ربع قرن. في مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي، وجد نفسه يخوض معركة بالسلاح الأبيض، نشبت بين الشباب المقيمين أصلًا في الحي، والشباب المرحّلين إليه: "لا يمكنك أن تنأى بنفسك، لأنك ستعامل على أنّك خائن لجماعتك، فتصبح عرضة للاعتداء من الطرفين".
أما عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه المعارك، فيذكر منها ثقافة النصرة التي يتعامل بها الشباب من الطرفين: "يكفي أن يتحرش شاب من هذا الطرف، بفتاة من الطرف الآخر، حتى تندلع معركة لا تنتهي إلا بتطويق رجال الشرطة الحيّ". يضيف: "عادة ما يرفض الشباب الأصليون، استحواذ الشباب الجدد على موقف سيارات، أو بقعة للتجارة، فيفرضون سيطرتهم عن طريق السلاح الأبيض".
كذلك لا يغفل الشاب عن سبب آخر، وهو الاختلاف في الانتماءات الكروية، ودوره في تأجيج المعارك في المدن الجديدة. يقول: "يأتي الشباب المرحلون حاملين ألوان الفريق الذي كانوا يناصرونه في منطقتهم القديمة، فيصطدمون مع الشباب المقيمين، والذين عادة ما يناصرون فريقاً منافساً، فيكون ذلك مدعاة للتناحر". ويختم بدعوة الحكومة، إلى مراعاة عنصر الانسجام في الأنسجة الاجتماعية، عندما تحدد مواقع الترحيل الجديدة.
هذا الانسجام، يراه أستاذ علم الاجتماع في جامعة مستغانم مهدي بلحميتي "العنصر الأكثر تغييباً في السياسة السكنية للحكومة، فما الذي يمنع إجراء دراسة سوسيولوجية، قبل ضبط قوائم المرحلين.. التجمعات السكنية ليست جدراناً فقط، بل هي فضاءات إنسانية أيضاً".
يقول بلحميتي لـ"العربي الجديد": "الدراسات الاجتماعية تؤكد أنّ العنف ينتعش في الأوساط الحضرية أكثر من الريفية، فالوسط الريفي أكثر تجانساً في الذهنيات، ويكون انتعاش العنف أقوى في الأحياء التي لم يثمرها التخطيط الشامل والمسبق، ما يدعو الحكومة إلى اتخاذ خطوات مدروسة في هذا المجال".
من هذه الخطوات بحسب بلحميتي "تهيئة الجو الملائم للسكان الجدد، بتوفير الخدمات التي يحتاجها الفرد من صحة ومدرسة ومواصلات وعمل ومراكز للترفيه، وإرساء الأمن الاجتماعي. لأنّ كل هذا سيؤسس لوظائف المدينة الأساسية المتمثلة في الإثراء، والمسؤولية، والإبداع، والاتصال بين أبناء المجتمع بأكمله".
مشروع السكن الاجتماعي
تعاني معظم المدن الجزائرية الكبيرة، على غرار قسنطينة والجزائر العاصمة، من ضيق مساحاتها العقارية، بما لا يسمح بإنجاز أحياء سكنية جديدة فيها. هذا الوضع دفع الحكومة إلى بناء أحياء في مدن أخرى، ونقل سكان تلك المدن المستفيدين من مشروع السكن الاجتماعي إليها. لكنّ ذلك أسس للمشاكل الحاصلة بين السكان الأصليين والوافدين.
اقرأ أيضاً: جدران الجزائر لتفريغ المكبوت
يرفض كثيرون الدعوات إلى زيارة بلدية سي مصطفى (64 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة). ويرفقون مع الرفض عبارة "لسنا بحاجة للمشاكل". عبارتهم تختصر الاضطرابات التي تشهدها البلدية، منذ مطلع العام الجاري، بسبب رفض سكانها قرار الحكومة إقامة أحياء سكنية جديدة، تستفيد منها عائلات مستقدمة من منطقتي الحراش والرغاية التابعتين لمحافظة العاصمة.
وعلى الرغم من تبرير والي العاصمة عبد القادر زوخ هذا الإجراء بعدم توفر عقارات في محافظته، ودعوته إلى التعايش باسم الانتماء إلى وطن واحد، ووعد والي بومرداس المحافظة التي تتبعها بلدية سي مصطفى، كمال عباس بتخصيص شطر من هذه المساكن لشباب المنطقة، إلاّ أن السكان أصروا على الرفض. حجتهم في ذلك رغبتهم في الحفاظ على انسجام نسيجهم الاجتماعي، وخوفهم عليه من التفكك بسبب استقدام عائلات غريبة عنه، تحمل معها ذهنياتها وطقوسها المختلفة، والأكثر من هذا، نزعة شبابها إلى العنف.
ظهراً، داخل البلدية التي تأسست عام 1850 وتحمل اسمها الحالي تكريماً لأحد الثوار البارزين، تصل الزحمة إلى ذروتها، بالتزامن مع انتهاء الدوام، ووقوع المدينة على الطريق الوطني المؤدي إلى مدينة تيزي وزو. تتجاوب المجموعات الشبابية المعنية بتنظيم التظاهرات الاحتجاجية الرافضة لهذا الترحيل. هم يعتبرون أنّ الصحافة نافذتهم الوحيدة، لإيصال أصواتهم، بعد إصرار الحكومة على تنفيذ مشروعها.
يقول فيصل ل. الطالب الثانوي إنهم لا يرفضون استقبال عائلات جديدة في مدينتهم من باب التمييز: "نحن شعب واحد، لكننا نخاف من العنف الذي سيمارسه شباب هذه الأحياء الطارئة، فقد خبرنا طبيعتهم في اللقاءات الكروية، إنهم يستمتعون بتحويل كلّ تجمع إلى معارك ومشاغبات". يضيف: "إذا كنا نتعرض للضرب على أيديهم في أحيائهم القديمة، فماذا ننتظر منهم، وهم يقيمون بيننا؟".
يتدخل خالد ش. أستاذ اللغة الفرنسية: "لماذا نتحدث كما لو أنّ الدولة غائبة؟ إنّ هذه الأحياء ستكون خاضعة، مثل غيرها، لسلطة المؤسسات الأمنية، وما على الذي يخطئ إلاّ أن يتحمّل مسؤوليته". يقول إنّه يشعر بالاستياء عندما يشاهد استقبال الأوروبيين لآلاف المهاجرين الذين يختلفون عنهم إلاّ في إنسانيتهم، في مقابل رفض جزائريين لمواطنين مثلهم، يشتركون معهم في كلّ القيم. يضيف: "على الحكومة أن تكون جادة في وضع حد لهذه النزعة، وإلا تفكك المجتمع، وأصبحت سلطة العصابات أقوى من سلطة الدولة".
بدوره، يقول حسين م. الذي يدير إحدى الفرق المسرحية التي تشتهر بها المدينة: "علينا أن نقرأ هذا الرفض في سياقه الموضوعي. السكان هنا يسمعون يومياً عن عشرات المعارك التي تنشب بالأسلحة البيضاء، بين شباب العائلات المرحّلة حديثاً وشباب العائلات الأصلية، وهي معارك لا تخلو من جرحى وقتلى. يجب كذلك ألا ننسى تجربة الإرهاب المسلح التي عاشتها المنطقة في تسعينيات القرن الماضي، والتي قتل فيها العشرات من أبناء المنطقة، على أيدي شباب غرباء".
لا يجد الشاب نزيم. أ حرجأ في الاعتراف لـ"العربي الجديد" أنّه كان يرفض، من قبل، خروج تظاهرات في مدينته، رفضاً لاستقبال عائلات استفادت قانونياً، من مساكن جديدة. لكنه راجع موقفه، بعد التجربة التي عاشها ابن خالته: "لقد فر بجلده إلينا، بعد معركة شارك فيها في المدينة الجديدة بقسنطينة".
بعد ذلك الاجتماع في مبنى البلدية بثلاثة أيام، تتمكن "العربي الجديد" من الوصول إلى الفتى المقصود. هو متخفٍّ لدى أقاربه منذ شهور، حماية له من تهديد بالقتل وصله، ويخاف أن يحتك بالصحافة كي لا ينكشف أمره. لكنّ حرصه على تمرير ما يسميها نصيحة للحكومة، يدفعه للموافقة على اللقاء، بعد اشتراطه عدم ذكر أدنى إشارة تدل عليه.
يقول إنه ليس مطلوباً من الشرطة، بل من شباب أصليين في الحي الذي تمّ ترحيل عائلته إليه، بعد معاناة مع أزمة سكن دامت ربع قرن. في مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي، وجد نفسه يخوض معركة بالسلاح الأبيض، نشبت بين الشباب المقيمين أصلًا في الحي، والشباب المرحّلين إليه: "لا يمكنك أن تنأى بنفسك، لأنك ستعامل على أنّك خائن لجماعتك، فتصبح عرضة للاعتداء من الطرفين".
أما عن أهم الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه المعارك، فيذكر منها ثقافة النصرة التي يتعامل بها الشباب من الطرفين: "يكفي أن يتحرش شاب من هذا الطرف، بفتاة من الطرف الآخر، حتى تندلع معركة لا تنتهي إلا بتطويق رجال الشرطة الحيّ". يضيف: "عادة ما يرفض الشباب الأصليون، استحواذ الشباب الجدد على موقف سيارات، أو بقعة للتجارة، فيفرضون سيطرتهم عن طريق السلاح الأبيض".
كذلك لا يغفل الشاب عن سبب آخر، وهو الاختلاف في الانتماءات الكروية، ودوره في تأجيج المعارك في المدن الجديدة. يقول: "يأتي الشباب المرحلون حاملين ألوان الفريق الذي كانوا يناصرونه في منطقتهم القديمة، فيصطدمون مع الشباب المقيمين، والذين عادة ما يناصرون فريقاً منافساً، فيكون ذلك مدعاة للتناحر". ويختم بدعوة الحكومة، إلى مراعاة عنصر الانسجام في الأنسجة الاجتماعية، عندما تحدد مواقع الترحيل الجديدة.
هذا الانسجام، يراه أستاذ علم الاجتماع في جامعة مستغانم مهدي بلحميتي "العنصر الأكثر تغييباً في السياسة السكنية للحكومة، فما الذي يمنع إجراء دراسة سوسيولوجية، قبل ضبط قوائم المرحلين.. التجمعات السكنية ليست جدراناً فقط، بل هي فضاءات إنسانية أيضاً".
يقول بلحميتي لـ"العربي الجديد": "الدراسات الاجتماعية تؤكد أنّ العنف ينتعش في الأوساط الحضرية أكثر من الريفية، فالوسط الريفي أكثر تجانساً في الذهنيات، ويكون انتعاش العنف أقوى في الأحياء التي لم يثمرها التخطيط الشامل والمسبق، ما يدعو الحكومة إلى اتخاذ خطوات مدروسة في هذا المجال".
من هذه الخطوات بحسب بلحميتي "تهيئة الجو الملائم للسكان الجدد، بتوفير الخدمات التي يحتاجها الفرد من صحة ومدرسة ومواصلات وعمل ومراكز للترفيه، وإرساء الأمن الاجتماعي. لأنّ كل هذا سيؤسس لوظائف المدينة الأساسية المتمثلة في الإثراء، والمسؤولية، والإبداع، والاتصال بين أبناء المجتمع بأكمله".
مشروع السكن الاجتماعي
تعاني معظم المدن الجزائرية الكبيرة، على غرار قسنطينة والجزائر العاصمة، من ضيق مساحاتها العقارية، بما لا يسمح بإنجاز أحياء سكنية جديدة فيها. هذا الوضع دفع الحكومة إلى بناء أحياء في مدن أخرى، ونقل سكان تلك المدن المستفيدين من مشروع السكن الاجتماعي إليها. لكنّ ذلك أسس للمشاكل الحاصلة بين السكان الأصليين والوافدين.
اقرأ أيضاً: جدران الجزائر لتفريغ المكبوت