29 سبتمبر 2017
حربان أهليتان ولم أزل حيّاً
عشت حربين أهليتين في لبنان، ونجوت من الموت، لكنني لم أنج من أورام الروح. كنت في السابعة من عمري عام 1958، ولم يكن في بيتنا تلفزة، فلم نشاهد من الحرب غير ما دخل إلى بيوتنا وأرواحنا. كانت الحرب في المخيم تظهر من خلال الصور الكثيرة لجمال عبد الناصر وللسياسي اللبناني معروف سعد على جدران البيوت في المخيم. وكنا نسمع عنها في أحاديث السهر التي يتداولها الكبار، وشتم كميل شمعون وحلف بغداد والأميركان وأسطولهم السادس الذي وصل إلى ميناء بيروت، والمديح العاطفي للقومية العربية، وبطلها في القاهرة.
كنت أشعر بالأمان عندما كنت أرى صور عبد الناصر في بيتنا وبيوت اللاجئين في المخيم، وكأن تلك الصور ستحميني من هشاشتي وأعدائي. لم أكن أتخيل شكلاً للأعداء، فلم أعرف من العدو، آنذاك، سوى صور كميل شمعون وبعض الجنود اللبنانيين من حراسه، ثم جنود المارينز بقصة شعرهم الغريبة، ولون بشرتهم البيضاء وشعورهم الشقراء!
تساءلت، فيما بعد، كيف لطفل لاجئ في السابعة من العمر أن يكون له هذا العدد من الأعداء الأقوياء. وليس هذا وحسب، ففي مرحلة من تطورات الحرب، صار لي عدو جديد، هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. هكذا أُفهمنا، فقد دعم الحزب موقف كميل شمعون سياسياً وعسكرياً، ما جعله يُنبذ من المؤمنين بالقومية العربية والناصرية، وخصوصاً في المخيم، فرأت قيادة الحزب إخراج الأعضاء الفلسطينيين، ونقلهم إلى مقر القيادة في "ديك المحدي" في جبل لبنان، فأرسلت قوة من الجيش اللبناني، للقيام بتلك المهمة، واجهتها المقاومة الشعبية، وقتل في المواجهة ثلاثة فلسطينيين حزبيين، وخرجت قوة الجيش، بعد فشلها في أداء المهمة. وفي ذلك اليوم، وقعت حادثة لم تزل راسخة في ذاكرتي، فقد منعت المقاومة الشعبية الناصرية أهالي القتلى القوميين السوريين صالح الخطيب وفلاح شبايطة وأحمد الشايب من دفنهم في مقبرة المسلمين في صيدا، حيث كان الفلسطينيون يدفنون موتاهم عادة، ما أضطر أهالي القتلى إلى دفنهم في حواكير البيوت.
كان بيت أحمد الشايب على بعد 150 متراً من بيتنا في المخيم، وكانت رؤية قبر في حاكورة البيت أول تجربة لي مع الموت، ومع المصائر الغريبة التي واجهها الفلسطيني، بعد أن فقد مكان العيش والدفن بفقده بلاده قبل عشر سنوات. وكانت التجربة أول علامات القسوة والشقاء التي سوف تتكرر بعد أكثر من عقد ونصف، في حرب أكثر دموية عام 1975، من حسن حظي فيها انني أحببت امرأة لبنانية مسيحية عشية الحرب. كنا متقاربين عمراً وفكراً وحلماً، وكانت الحرب طاحنة في تشوهاتها، ومكتظة بلاعبيها الكثر ووحشية هوياتها التي تستدرج القتل على أي حاجز، وفي كل المناطق. وكان مشهدنا معاً في الفاكهاني أليفاً لسكان المنطقة، من مواطنين عاديين ومقاومين وعناصر أجهزة الأمن في مختلف الفصائل. وكنا معاً في رحلات بين طرابلس وبيروت، في الطرقات الطويلة، تفادياً لحواجز القتل على الهوية. ومن حسن حظي أنني التقيت بأصدقاء لبنانيين مسيحيين، أحببتهم وأحبوني، دافعت عنهم، وبذلت كل ما في وسعي، لدفع المخاطر عنهم في تلك اللحظات المتوحشة من الحرب. ودافعوا عني، من خلال نور قلوبهم ونقاء نفوسهم وسكينة أرواحهم التي تسللت إلى روحي، في علاقتها مع هذا الكون القبيح الذي كنا، وما زلنا، نعيش فيه.
ليست السياسة والأيدولوجيا ما أنقذ روحي في الحرب، بل ربما الحب. ولم أخرج من الحرب معافى، ففي السنة الثانية، دخل الجيش السوري طرفاً مباشراً، بعد أن كانت مخابراته لعبت سراً أدواراً أساسية في عدة مجازر طائفية ضد قرى مسيحية، اتهمت فيها أطراف فلسطينية ولبنانية. وفقدت أخي الفتى برصاص الجيش السوري، كما فقدت أصدقاء وأحبة كثيرين. نجوت من الموت، لكن روحي نزفت.
كنت أشعر بالأمان عندما كنت أرى صور عبد الناصر في بيتنا وبيوت اللاجئين في المخيم، وكأن تلك الصور ستحميني من هشاشتي وأعدائي. لم أكن أتخيل شكلاً للأعداء، فلم أعرف من العدو، آنذاك، سوى صور كميل شمعون وبعض الجنود اللبنانيين من حراسه، ثم جنود المارينز بقصة شعرهم الغريبة، ولون بشرتهم البيضاء وشعورهم الشقراء!
تساءلت، فيما بعد، كيف لطفل لاجئ في السابعة من العمر أن يكون له هذا العدد من الأعداء الأقوياء. وليس هذا وحسب، ففي مرحلة من تطورات الحرب، صار لي عدو جديد، هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. هكذا أُفهمنا، فقد دعم الحزب موقف كميل شمعون سياسياً وعسكرياً، ما جعله يُنبذ من المؤمنين بالقومية العربية والناصرية، وخصوصاً في المخيم، فرأت قيادة الحزب إخراج الأعضاء الفلسطينيين، ونقلهم إلى مقر القيادة في "ديك المحدي" في جبل لبنان، فأرسلت قوة من الجيش اللبناني، للقيام بتلك المهمة، واجهتها المقاومة الشعبية، وقتل في المواجهة ثلاثة فلسطينيين حزبيين، وخرجت قوة الجيش، بعد فشلها في أداء المهمة. وفي ذلك اليوم، وقعت حادثة لم تزل راسخة في ذاكرتي، فقد منعت المقاومة الشعبية الناصرية أهالي القتلى القوميين السوريين صالح الخطيب وفلاح شبايطة وأحمد الشايب من دفنهم في مقبرة المسلمين في صيدا، حيث كان الفلسطينيون يدفنون موتاهم عادة، ما أضطر أهالي القتلى إلى دفنهم في حواكير البيوت.
كان بيت أحمد الشايب على بعد 150 متراً من بيتنا في المخيم، وكانت رؤية قبر في حاكورة البيت أول تجربة لي مع الموت، ومع المصائر الغريبة التي واجهها الفلسطيني، بعد أن فقد مكان العيش والدفن بفقده بلاده قبل عشر سنوات. وكانت التجربة أول علامات القسوة والشقاء التي سوف تتكرر بعد أكثر من عقد ونصف، في حرب أكثر دموية عام 1975، من حسن حظي فيها انني أحببت امرأة لبنانية مسيحية عشية الحرب. كنا متقاربين عمراً وفكراً وحلماً، وكانت الحرب طاحنة في تشوهاتها، ومكتظة بلاعبيها الكثر ووحشية هوياتها التي تستدرج القتل على أي حاجز، وفي كل المناطق. وكان مشهدنا معاً في الفاكهاني أليفاً لسكان المنطقة، من مواطنين عاديين ومقاومين وعناصر أجهزة الأمن في مختلف الفصائل. وكنا معاً في رحلات بين طرابلس وبيروت، في الطرقات الطويلة، تفادياً لحواجز القتل على الهوية. ومن حسن حظي أنني التقيت بأصدقاء لبنانيين مسيحيين، أحببتهم وأحبوني، دافعت عنهم، وبذلت كل ما في وسعي، لدفع المخاطر عنهم في تلك اللحظات المتوحشة من الحرب. ودافعوا عني، من خلال نور قلوبهم ونقاء نفوسهم وسكينة أرواحهم التي تسللت إلى روحي، في علاقتها مع هذا الكون القبيح الذي كنا، وما زلنا، نعيش فيه.
ليست السياسة والأيدولوجيا ما أنقذ روحي في الحرب، بل ربما الحب. ولم أخرج من الحرب معافى، ففي السنة الثانية، دخل الجيش السوري طرفاً مباشراً، بعد أن كانت مخابراته لعبت سراً أدواراً أساسية في عدة مجازر طائفية ضد قرى مسيحية، اتهمت فيها أطراف فلسطينية ولبنانية. وفقدت أخي الفتى برصاص الجيش السوري، كما فقدت أصدقاء وأحبة كثيرين. نجوت من الموت، لكن روحي نزفت.