حديث عن هذه الجريمة.. وعن التي ستليها
"يعني زعلان عشان الفرنساويين اللي اتقتلوا، بدل ما تزعل على قتل المسلمين في العراق وسورية ولبنان وفلسطين وبورما". لا أدري كم مرة قال صديقي هذه العبارة، في حوارنا الذي فشلت خلاله في إقناعه، إنه يمكن لك، كإنسان عاقل، أن تدين قتل مدنيين عُزّل، أو رسامي كاريكاتير لم يفعلوا سوى التعبير عن رأيهم، أياً كان رأيك فيه، ثم تدين، بالقوة نفسها، قتل الأبرياء في باكستان واليمن والعراق وسورية وبورما، وكل مناكب الأرض، وتستعيد كل جرائم الإمبراطوريات الاستعمارية، وتُذكِّر من حولك بإبادة الهنود الحمر، وقتل ضحايا هيروشيما وناغازاكي وغزة وأبو غريب وملجأ العامرية وماسبيرو ورابعة وحلب وبنغلاديش، وتدين أزمات التهميش الذي يعاني منه المهاجرون في المجتمعات الغربية ودور العنصرية في تغذية التطرف، وتدين، أيضاً، نفاق الغرب وصمته على الأنظمة النفطية التي تدعم الأفكار السلفية المتطرفة، وأنه يمكن أن تجمع بين كل هذه الإدانات الضرورية، من دون أن تصاب بمرض عضال، أو حتى بدوالي الخصيتين أو الفتاق الإربي، لأن إدانتك كل أشكال القتل، مهما تعددت أشكال القتلة، لا يعني أكثر من أنك تتمسك بآخر خيوط الإنسانية، حتى وإن كانت واهية، لا تحيي الموتى ولا تنصر الضعفاء.
جعلتني صداقتنا العميقة أفكر في إثبات وجهة نظري له باستخدام شكل إيضاحي مساعد، فانتظرت حتى صارت الفرصة متاحة، ومنحته مداخلة بلدية عميقة من التي يزجيها الأصدقاء لأصدقائهم حين يتزوجون، فيقفزون في الكوشة بشكل غير مفهوم للعروسة، ليستدير صارخاً وغاضباً وشاتماً من المداخلة التي أسديتها له، فأقول له بجدية شديدة "إزاي تزعل على نفسك من غير ما تزعل على اللي بيتقتلوا في العراق وسورية وبورما". وللأسف، لم يتفهم المعنى الذي حاولت أصابعي الودودة إيصاله إليه.
من حقك أن تعتبر هذا الكلام عبثاً منحطاً، لا يليق بما نعيشه من أجواء متوترة مكفهرة، كنت سأتفق معك، لو لم نكن محاطين بأشكال أشد عبثاً وانحطاطاً، يتخفى بعضها في ثياب الغيرة على الدين الحنيف، وبعضها في ثياب عدم الرغبة في الانسحاق أمام المستعمر، وبعضها في ثياب الحديث عن ضرورة رفض الفن المنفلت المغذي للتطرف، ما يذكرك بانحطاط كثيرين من أبناء أمتنا، حين يعلقون على طريقة لبس فتاة تعرضت للاغتصاب أو التحرش، ودوره فيما تعرضت له من جريمة، وهم أنفسهم الذين سيتهمونك بالانسحاق أمام الغرب الغاصب، لو رفضت عقد أي مقارنة بين اختيار مسالم يمكن رفضه بالكتابة أو الفن، أو حتى اللجوء إلى القانون والتظاهر وكل وسائل التعبير السلمي عن الاستنكار، وبين اختيار وحشي بربري، يتخيل أن انتصار نبيه ورسوله سيتحقق، حين يصبح اسمه مرتبطاً بالدم والقتل في أذهان كل من يفكر في انتقاده.
أنت لا تحتاج إلى مناسبة، لكي يثقل قلبك الحزن والقرف على أوضاعنا، لكن أياما كهذه ستشكل مناسبةً لم تطلبها للمزيد من الحزن والقرف، خصوصاً إذا كنت ممن أنعم الله عليهم بيقظة الذاكرة، وهو ما سيجعلك تتذكّر أن كلاماً كثيراً مما تقرأه وتسمعه، أو حتى ترغب في قوله وكتابته، سبق أن قيل وكُتب قبل ذلك، في مناسبات مماثلة متكررة، "هاجت" فيها الشعوب الإسلامية ضد فيلم أو رسوم كاريكاتيرية أو رواية أو مقالة، ظناً منها أنها بذلك الهيجان تكرّس لنفسها هيبة مستمدة من مبدأ "لرهبوت خير من رحموت"، وأنها حين تقتل أو ترهب من تطاول على مقدساتها، تمارس انتصاراً ما على سبيل التغيير اللازم، لأمة لا تفعل شيئاً سوى الانتقال من هزيمة إلى أخرى، أمة يئست من مواجهة نفسها بهزائمها، فقرّرت أن تركز في انتصارها السهل الذي سيكفل لها دخول الجنة، في حين تُسعّر كل شعوب الأرض في الجحيم.
لا داعي لسيرة "الديجافو"، إذا تذكّرت أننا خضنا في حديث كهذا قبل ذلك، لأن "الديجافو" أكرم وأعز عندي، من أن أستخدمه في وصف حالنا الذي "نبات فيه نصبح فيه"، لا تنسى أن بعض علماء النفس، وهم يتحدثون عن حالة "الديجافو" التي يشعر الإنسان فيها بأنه عاش في ماضيه تفاصيل تمر عليه في حاضره، ربطوها بحدوث مشاعر الرهبة والغرابة، أما نحن فلم نعد نستغرب أننا نعيش على الدوام ما عشناه من قبل، ولا أظن أن الرهبة ستكون شعورنا المفضل حين نعرف أننا سنعيشه لاحقاً، سنظل متمسكين بتفضيل الحزن والقرف اختياراً للتعبير عن اختيار شعوبنا تحاشي مواجهة جوهر أزماتها، وتفضيلها الالتفاف حولها دائما، لتجنب مرارة المواجهة، ونيل راحة خداع النفس، وهو ما يجعل ما سبق أن قلناه جميعاً على اختلافاتنا الفكرية، أيام أزمة الرسوم الدنماركية، هو نفسه ما قاله السابقون لنا في أزمة رواية "أولاد حارتنا"، و"آيات شيطانية" من قبلها، وهو نفسه ما قلناه كلنا على الرغم من اختلافاتنا أيام أزمة الفيلم الأميركي المسيء للرسول، وهو ما قلناه أيام تفجير مقر صحيفة شارلي إيبدو قبل سنوات، وما نقوله، بعد قتل أهم رساميها، وأظننا من دون رجم بالغيب، سنقوله في المستقبل كثيراً للأسف الشديد.
صدقني، ليس بي بلاهة تجعلني أتصور إمكانية حسم قضايا شديدة التعقيد، كعلاقة شعوبنا المسلمة بحرية التعبير وأسقفها، أو توقفها عن تحويل مقدساتها لوسائل للعراك مع الكون، لتصبح وسائل للارتقاء بأحوالها المزرية بشكلٍ يجلب لها احترام الذات، قبل احترام العالم لها، فكل ما أطلبه أن نتوقف، ولو قليلا، عن العيش داخل هذه المتاهة الاختيارية المهينة التي تجعلنا نعيد، في بداية القرن الحادي والعشرين، معارك بداية القرن العشرين، ولكن، بشكل أكثر دموية وانحطاطاً، لتصبح جرجرة الكاتب إلى المحكمة، حلماً أفضل بكثير من قطع رأسه على أيدي مهاويس، نصبوا أنفسهم ظلا لله على الأرض.
لا، يا عزيزي، لست أهطل، لكي أتوقع ممن لا يجد لذته إلا في القتل أن ينقطع عن تلك اللذة، ولست أتوهم أن من جرب شغف الحسم بالقتل سينبذه، ليصبر على عناء الحوار والجدال وإثبات الحجة، فقط أسأل: هل يمكن أن أتوقع من مدعي الثقافة الذي يرفض القتل ثم يتنحنح ويبرره أن يفهم خطأ تبرير القتل بالنحنحة، تحت أي ظرف أو أي مبرر، لعله على الأقل يصعب مهمة من سيتنحنح بالمبررات، حين يتعرض للقتل ظلماً وعدواناً؟ هل أتوقع أن يصارح أهل القلم والرأي بيننا باقي أبناء أوطانهم، بأنهم لن يتمكنوا، بعد الآن، من الجمع، في الوقت نفسه، بين الاعتقاد أنهم ضحايا لتآمر العالم عليهم، والشكوى من تأخر العالم عن مساعدتهم وعونهم، والاعتقاد أنهم أسياد العالم وخلفاء الله على الأرض، ومحتكرو دخول جنته؟
هل أنتظر ممن يستخدم منجزات الحضارة الحديثة أن يفهم أننا لن نستطيع ممارسة الفهلوة الأزلية، بأن نستفيد من منجزات تلك الحضارة في الطب والعلوم والتكنولوجيا، في حين نقرر أن نعيش سياسياً وثقافياً ودينياً، في العصور الوسطى، حيث تسود لغة قطع الرقاب لكل من يختلف معنا، هل يمكن أن يفهم خريجو مدارسنا وجامعاتنا قبل غيرهم ممن لم ينالوا حظ التعليم، أن معيار التحضر هو أن لا تقتل أو تقمع من يردد رأياً يغضبك أو يزعجك، لأن عدم قتلك أو قمعك لصاحب الرأي الذي يسعدك أو يريحك لا يعول عليه أبداً، في اعتبار أنك متحضر تقبل الاختلاف في الرأي؟
هل أتوقع أن يخجل من تناقضه المهين من يدين قتل الأبرياء في فرنسا، ويفرح به ويباركه، حين يقع ظلماً وعدواناً في مصر أو غير مصر؟ هل أتوقع أن يدرك، ولو حتى كتاب الصحف وضيوف برامج التوك شو، أن ما ينتقده كثير منهم من تناقض العالم الغربي ونفاقه في التعامل مع جرائم إسرائيل وأميركا، هو ما يبارك أغلبنا ممارسته في أوطاننا، حين نصفق لقمع المختلفين معنا، ونثور حين نكتوي بنار الظلم والقمع؟ هل أتوقع أن يدرك كل المتطرفين من كل الاتجاهات والتيارات، أنه لن تنجح أي قوة منظمة، سواءً كانت قوة عسكرية أو دينية في حسم خلافاتها مع الآخرين بالحديد والنار؟ وأن كل محاولة يقوم بها أي طرف، لإثبات أنه الاستثناء لتلك القاعدة، ستثبت فشلها بعد دفع أثمان باهظة، يمكن لنا تجاوزها بالتعلم من تجارب الآخرين المريرة الدامية؟
للأسف، لست أملك في مواجهة كل الواقع "الغائطي" المحيط، إلا هذه الأسئلة التي لا يفصلها عن استحقاق وصفها بالسذاجة، إلا معرفتي المسبقة بأن الإجابة عليها جميعاً هي "لا"، وكل ما في الأمر أنني حين جهرت بها، عبرت بها عن حزني وقرفي، وربما ساعدك الجهر بها على التفكير فيها، فتتفق، أو تختلف معي في التعبير عن حزنك وقرفك منها، أو من ساءلها. ومع ذلك، لا أظنك مهما اختلفت معي، ستنكر أننا لو لم نقرر مواجهة أنفسنا ومراجعة طريقة تفكيرنا في التعامل مع الكون ومع أنفسنا، سيأتي علينا حينٌ قريبٌ من الدهر، سنكرر فيه كل ما قلناه الآن وبالأمس وقبل الأمس، لينطبق علينا المثل الشعبي القديم: "عَلِّم في المتبلِّم يصبح ناسي"، مع اختلاف بسيط هو أننا لا نمتلك رفاهية المتبلم في اختيار النسيان، ولن ننال حظ الهروب من دفع أثمان التأخر في التغيير، والتي يهون إلى جوارها، كل ما دفعناه من قبل.
فصل من كتابي (البهاريز) كتبته عقب جريمة الاعتداء على رسامي "شارلي إيبدو" والكتاب يصدر قريباً.