حديث الهجوع والبقاء

02 يوليو 2014

حكومة التوافق الفلسطينية بعد أداء اليمين (يونيو/2014/فرانس برس)

+ الخط -


منذ أدت حكومة الوفاق الفلسطينية اليمين (2/6/2014)، لم يُسمع من طرفي الخصومة، "فتح" و"حماس"، سوى شكوى كل طرف من الآخر. يقول الفتحاويون إن شيئاً لم يتغير في غزة، وإن "حماس" تحكم فعلياً، وإن في سجونها معتقلين سياسيين، وإنها توزع الأدوار بين مستوياتها السياسية وأجهزتها. وهناك من يزيد أن هدف "حماس" من المصالحة، أصلاً، ليس إلا تجاوز تبعات القطيعة مع مصر، وفتح معبر رفح، ثم أن ترفع عن كاهلها العبء المالي للموظفين، مع إبقاء عبئهم على السلطة قائماً لمصلحتها. أما الحمساويون فيقولون إن هذه الحكومة لا تؤدي وظيفتها، وتتعامل مع غزة باعتبارها خارجاً، وإن موظفي مؤسسات السلطة في غزة باتوا موظفيها بعد التشكيل الحكومي، وينبغي أن تدفع لهم رواتبهم، وأن تكفَّ عن التنسيق الأمني، وعن القمع والاعتقال الذي ما زال جارياً في الضفة الغربية، ويطال محازبي "حماس" وأنصارها.
في هذا الخضم، بدا ما سُمي "المصالحة"، وإن كان قد أنتج حكومة؛ هشاً وغير مقنع. فقد استُحدثت مفرداتٌ جديدة للسجال تناسب المستجد الحكومي، ليس أقلها اتهام كل طرف الطرف الآخر بمحاولات "نسف" المصالحة، أو تخريبها. ذلك علماً بأن هذه لم تقم أصلاً لكي تُنسف، ولم تعمّر لكي تخرب. ففي أفضل التوقعات، في مقدور الفلسطيني أن يرى في تشكيل حكومة الوفاق خطوةً أولى، يمكن البناء عليها، على صعيد سهولة الاتصالات بين الطرفين، ولتطويق أحداث التوتر، مثلما حدث عندما حاصرت مفارز مسلحة من "حماس" البنوك في غزة، وأوقفت عملها، وقمعت الموظفين الذين ذهبوا لصرف رواتبهم.
في وقائع من هذا النوع، ينفتح العامل الداخلي على الخارجي، ويكتشف الفلسطينيون، وفي طليعتهم طرفا الخصومة، أنَّ لا شيء فلسطينياً مستقلاً بذاته. وأن لا رواتب ومعابر ومقاومة ومسالمة وأجهزة وقوى صاروخية يمكن أن تجتمع ضمن معادلةٍ واحدة. فها نحن اليوم، على أبواب مشكلةٍ أخرى، تتعلق بالمال والمصارف، ولا يعرف الناس الشروط والقيود التي تحكم عمل سلطة النقد الفلسطينية، والبنوك تالياً وحُكماً. وفي المواجهة السياسية مع حكومة نتنياهو، يستخدم الأخير موضوع التوافق، لكي يبني عليه هجوماً مضاداً، بعد أن باتت سياسة حكومته مرفوضة دولياً. يهرب إلى الأمام، ويعلن عن إجراءات تضييق ومشروعات توسع استيطاني، وهو يُفاقم الوضع، بعد اكتشاف جثث المستوطنين الثلاثة، لأنه، منذ بداية واقعة الاختفاء، أصر على توظيفها سياسياً وأمنياً ضد "حماس"، مدخلاً للضغط على السلطة الفلسطينية، ولإيهام الأميركيين أنه في موضع المضطر لكل شيء ذميم: رفض التوقف عن الزحف الاستيطاني، والقيام بالاجتياحات وأعمال العنف، والتنكر لكل الصيغ والمقاربات المتعلقة بالتسوية. فهو، ومعظم أعضاء حكومته، في أحاديثهم وقناعاتهم، يعتبرون التسوية كارثةً، ويتحاشونها ويجهدون أنفسهم لاشتقاق صيغ التعايش مع "المرض" الذي يمثله وجود الفلسطينيين في الضفة!
في المعسكر الفلسطيني، بات ضرورياً القول إن المصالحة ليست في تفصيلاتها الإجرائية، وإنما هي رؤية للتوافق، ووحدة حقيقية للكيانية السياسية، واستراتيجية عمل. لقد نشأت المصيبة الداخلية، أصلاً، عندما وجدت على أرضٍ واحدة، رؤيتان متناقضتان، استحثتا استراتيجيتين للعمل الفلسطيني. وفي الحقيقة، لم تُناقش، بعمق وبموضوعية، أيٌ منهما، لمعرفة جدواها. وسرعان ما بدا أن انسداد السياسة يضاهي انسداد القتال. خابت، للأسف، حسابات السياقين، لأن استراتيجية كل منهما ناقصة أو ركيكة، لم يكن فيهما من البلاغة والفصاحة إلا دماء الشهداء، وكان دم الشهيد ياسر عرفات، تحديداً، المعادل الموضوعي لغدر السياسة وفشل أي "مسعى" للسلام، قبل أن نعرف أيَّ سلامٍ سنسعى إليه، وكيف وبضمانة من؟!
في حكومة المستقلين التي توافق عليها طرفا الخصومة الفلسطينية، يمكن القول، ولو بلغة الدُعابة، إن "المتعوس قد التمّ على خائب الرجاء"، لكي يصنعا شيئاً جديداً. لكن العوامل الخارجية لا تزال تضغط، والطرفان يضغط كل منهما على الآخر، بينما صوتٌ قويٌّ لجرسٍ يقُرع وينبه: إن كياناتٍ قائمة وقوية تدفع عن نفسها، الآن، أخطار الفناء، وبعضها لن يكون ترميم فجواتها سهلاً بعد خمسين سنة. فليعلم الفلسطينيون أن ما يجري ضدهم مقدماتُ إفناء سياسي لهم. السياق الإقليمي يضغط، فإنْ زيدت عليه ضغوطٌ داخلية وسجالات، بالحسابات "العبيطة" الصغرى، مع مزاعم الرسوخ في السياسة وفي المقاومة، فالكارثة ستقع. فلم نعد راسخين في شيء، ولا فلاح، الآن، إلا من خلال صيغةٍ للهجوع، لكي نحقق البقاء، ونربح أنفسنا ووجودنا!