لا أحد
في طريق ترابيٍّ ضيق تضيءُ الشمسُ نصفه، يتوقّف العابرُ.. جدرانُ بيوتٍ عالية بلا نوافذ، بابٌ خشبيٌّ ثم دهليزٌ ففناءٌ يظلّلهُ النخيلُ والسدرُ ورطوبة المياه. لا أحدَ في هذه الظهيرة غير عصافير الدوري وآنيةٍ فخارية ملقاةٍ حتى الفجر. لا أحدَ في الظلِّ أو في النوافذ. لا أحد على السطح حيث تسطع الشمسُ وتتوهّج بيوتُ الجيران. سطوح خالية والفضاءُ البعيد بياضٌ ونخيلٌ نحيلٌ، ضرباتُ فرشاةٍ باهتة في أقصى رابعة النهار.
أحياناً
أحياناً يقتربُ من الحلمِ، يغمضُ عينيه.. وعند أطرافِ الصحراءِ يرى وجههُ في نقشٍ مطموسٍ على صخرة غارقة في الرمل والريح تفيءُ إليها الثعالب أحياناً أو تستريح قافلة مسافرةْ، تعلّقُ عليها تمائمها وتوقد نيرانها في العراءْ.
صوفيا
في صوفيا، يلمس الإنسانُ حافةَ الموتِ والميلاد. في صوفيا تتواصل الحياةُ أفعالاً إيمائية صامتة. في صوفيا تجئ النهاية، يموت الناسُ ملوّثين بالسكون مثل أغصانٍ جافة.. وفي كل عام تزهر أشجار الكستناء، تتساقط ثمارها، لأن الأطفال كثيرون إلى درجة لا تُصّدق، لأن العجائزَ حاضرون أكثر مما ينبغي.
جالا
"جالا" الأربعينية تتساقطُ أسنانها فتعيدُ ترتيبها بين فترة وأخرى. "جالا" غجرية ضائعة لا تمتلكُ خزانة جوز تنتظرها، لا شوارعَ مكتظة بالتماثيل."جالا" تمتلكُ حناناً قديماً يحيط بأسرةٍ في أعماقها..
"جالا" طفلة في بيتٍ واسع يتحرّك فيه الناسُ جيئة وذهاباً، يخلو البيتُ فجأة يرحل الأبُ والأمُّ إلى بلدٍ غامض يدعى "روسيا"، وهناك تطمرهما الثلوجُ إلى الأبد.
حدث هذا منذ زمن بعيد
حدث هذا منذ زمنٍ بعيدٍ أو لم يحدث، وما زلتُ أنتظر حدوثهُ كلما اقتربَ الليلُ واتخذتُ طريقي إلى البار الذي تسكنه رائحةُ البحرِ، أنا الناجي الوحيد من قبيلةٍ مفقودة، ربما كانت قبيلة من القواقع أو النوارس أو عصافير الدوري أو أزهار نرجس أغرقتها وحول الشتاء.. ربما كانت قبيلة من رمالٍ لا يتذكرها أحد.
نادية
"نادية" ممتلئة شقراء تتساءل حتى هذه اللحظة؛ كيف كانت حمقاء وارتضت الزواجَ من عامل القطارات "آسين" الذي تحوّل إلى قطارٍ بليد غارقٍ في محطةٍ معتمة.
حكاية
في حارةٍ قاصية بين نخيلْ البصرة يتجمع "العبيدُ" مساء كل خميس، يبدأ قرع ُ الطبول القديم منذ أيام صاحب الزنج علي بن محمد، أمام هيكل سفينةٍ مرفوعٍ عالياً، يرقصون ويشربون، فإذا أخذ السكرُ منهم كل مأخذٍ رحلوا وهم يدمدمون بلغاتٍ غير مفهومة على ظهرِ سفينتهم الرمزية.
ديانا
"ديانا" أقلّ احتفاءً بالذكرى؛ فستانٌ أسود يلتصق بجسدٍ خمري، شفتان حانيتان، حزنُ عينين واسعتين وسرطانُ ثدي ينتظر. تفكرُ بالهجرة مع طفلها الوحيد إلى عمة في استراليا. وفي انتظار ذلك تستسلم لصديقها رجل المخابرات اللحوح.
قال له عرّاف
قال له عرّافٌ: "ستظلُّ تائهاً روحكَ مقيدة في تميمة أخفتها امرأة في ثنايا شعرها إلى أن تجد المرأة في غابةٍ أو أعماق معبدٍ مجهول". التميمة تقيدهُ، تجذبهُ إليها، تسحبهُ، سواء كان في حديقةٍ أو على سريرٍ أو شاطئ بحر أو في عتمةِ بار مدينة تتعددُ لغاتُ أهلها أو في أحضانِ امرأةٍ أخرى. تقيّدهُ حتى لو اختفى في شعاب رواية يحكيها لمستمعين في زاوية مسجد يظلل باحته النخيلْ.
ربما كانت
ربما كانت الطيورُ نساءً في الماضي، ربما كانت الأشجارُ أيضاً والمعابد والندى؛ كاهنة تصحو فتتحول إلى سدرة تزحمها العصافير، وفوق المرتفعات تتحول امرأة إلى شجرة بوكنفيليا مثقلة بأزهارٍ حمراء، صاحبةُ حانةٍ حكيمة، صادفها جلجامش ذات يوم، تتحول إلى معبدِ لذائذ ومدينة مطلة على البحر. وتتناسق في بارِ مدينةٍ منسية مغنيةً مثل سيمفونيةٍ هائلة، فتتحوّل إلى ندى يتساقط في أماكن متباعدة.