رغم تأخر دخوله إلى عالم الكتابة حتى سن الأربعين، إلا أن الكاتب حجّاج أدّول استطاع أن ينجز قائمة طويلة ومتنوعة من الأعمال الأدبية والبحثية، ما بين الرواية والقصة والمسرحية، كما كتب في التراث والتاريخ النوبي.
أدول المولود في مدينة الإسكندرية عام 1944، بعد رحلة طويلة ومؤلمة قطعتها أسرته من أقصى جنوب مصر إلى أقصى شمالها، عقب غرق قريتهم النوبيّة نتيجة، تعلية خزّان أسوان، تشتبك معظم كتاباته مع أسئلة التاريخ والذاكرة والهوية والسير الشعبية والسفر والارتحال وعلاقة الأنا بالآخر.
بدأ صاحب رواية "خوند حمرا" رحلته مع الكتابة الأدبية عام 1984، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1990، عن مجموعته القصصية "ليالي المسك العتيقة"، وجائزة ساويرس للأدب عام 2005 عن رواية "معتوق الخير".
يعشق أدول الهدوء ويكره الضوضاء والزحام، لذلك لم يستطع العيش في القاهرة: "أضعت فرصاً كثيرة بإصراري على البقاء في الإسكندرية، لكني غير نادم، لم أحتمل شراسة القاهرة وقسوتها"، يقول حجاج في حواره مع "العربي الجديد"، موضحاً أن مركزية القاهرة والعلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة، أصبحت السمة الغالبة على الوسط الثقافي.
لم يعش صاحب رواية "الكُشَر" مأساة تهجير أسرته من النوبة، لكنه عاش تبعاتها "الخوف والضياع والفقر والاضطهاد والعنصرية، مشاعر مؤلمة عشتها في طفولتي وشبابي، تمت معاملتنا على أننا مواطنون من الدرجة الثانية، استغلوا طيبتنا ليسرقوا حقوقنا" يقول حجاج، مشيراً إلى أن تهجير النوبيين من قراهم فعل إجرامي تكرّر أربع مرات، الأولى مع بناء خزان أسوان عام 1902، والثانية مع تعلية الخزان عام 1912، والثالثة عام 1933، والرابعة مع بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي.
يفخر صاحب "الصحوة النوبية" ويعتزّ بهويته النوبية، مؤكداً أن "الاعتزاز بالهوية النوبية مرتبط بالثقافة لا بالعرق، فالمجتمع النوبي من أكثر المجتمعات التي كانت تعيش في سلام على ضفاف النيل، وتملك فهماً ورؤية خاصة للحياة، تقدّس الأرض والزراعة والطبيعة".
ويكمل: "مع هجرة النوبيين نحو الشمال، واجهوا أخلاقيات المدن بقسوتها وعنفها وزمنها المتسارع، وكانت صدمة كبيرة للأجيال الأولى، ونفقد بكل أسف يوماً بعد يوم، جوانب من هويتنا النوبية في المهجر الذي طال بنا لما يقرب من قرن حتى الآن".
يرى أدول أن الموقع الجغرافي كان له دور فيما تعرضت له النوبة من أزمات وتهجير وتهميش: "وجود النوبة بين قوتين كبيرتين مصر شمالاً وإثيوبيا جنوباً، كان من النقاط الضاغطة على المنطقة النوبية، وبالتالي ما حدث ويحدث للنوبة يمكن فهمه في هذا الإطار، ومثلما كان موقع مصر سبباً في جعلها مطمع الغزاة، فموقع النوبة أيضاً جعلها تتعرض لكثير من المخاطر".
رغم أن السد العالي كان أحد الأسباب الرئيسية لتهجير مزيد من النوبيين، وغرق كثير من القرى النوبية، إلا أن حجاج أدول عمل لخمس سنوات في بناء السد العالي، مشيراً إلى أن المشكلة الأكبر لم تكن السد، بل في التهجير المقصود: "عبد الناصر وأفكاره القومية وتصوراته عن وهم النسيج المجتمعي الواحد المُصمت، جعلته رافضاً لأي تنوع ثقافي داخل المجتمع المصري، لذلك أصرّ على عدم رجوعنا لقرى النوبة بعد الانتهاء من بناء السد، محاولاً إذابة النوبيين وصهرهم داخل المدن المصرية".
يشير أدول إلى أن هذه المحاولات لدمج النوبيين كانت تقوم على قاعدة التمييز لا المساواة: "مشاعر العنصرية والاضطهاد وشعور أبناء المدن الكبيرة بنوع من التميّز الزائف، كانت وما تزال تمارس ليس فقط ضد النوبيون، ولكن ضد كل ما هو مختلف، وإن كان اختلافه جزئياً"، ويضيف موضحاً أن هذا التمييز والعنصرية ضد النوبيين، ساهم فيه النوبيون أنفسهم بصورة غير مباشرة؛ عبر طيبتهم المفرطة: "أهلكتنا طيبتنا، لذا في كلمة لي أمام حشد نوبي منذ عدة سنوات، وكانت السلطة وقتها قد أقامت ثلاث قرى في المنطقة النوبية وأسكنت غير النوبيين، قلت: لن أكون النوبيّ الطيب، سأكون النوبي الشرس، من يمارس تجاهي عنصرية أو إساءة سوف أعامله بالمثل والعين بالعين والسن بالسن".
استمرّت فترة تجنيد صاحب "أحضان القنافذ" في الجيش سبع سنوات بين عامي 1967 و1973، وبعد خروجه كان قد بلغ سن الثلاثين، ولم يكن قد حقق الكثير في حياته. يقول: "شعرت بالضياع، العالم يتغير من حولي، وأحتاج للعمل، وأشعر بألم كبير لتضحيات رفاق الحرب. وسط كل هذه الصراعات، كانت الكتابة طوق نجاة، لكن الاضطرار للعمل الشاق لفترات طويلة، من أجل تغطية تكاليف الحياة، جعلني أتأخر في نشر أول أعمالي حتى سن الأربعين".
تستحوذ الإسكندرية على حضور كبير في أعمال صاحب رواية "كديسة". عاش فيها طفولته، وأحب بحرها، وعشق تاريخها، ويشعر بحسرة لواقعها، مشيراً إلى أن "الرداءة أصبحت سمة عامة ليس فقط في الإسكندرية ولكن في كافة المجالات، ففي مجال التعليم نمثل أننا نتعلّم ولا نتعلّم، وعندما نذهب للعمل ندّعي بأننا نعمل ولا نعمل، وكذلك في الرياضة نشاهد المباريات ولكننا في الحقيقة لا نلعب رياضة.
يمكن لنا القياس على هذا، فيما يخصّ وضع الثقافة والأدب في مصر، حيث الأكثر شهرة أخذ ويأخذ أكثر من حقه في الشهرة، والأزمة أن المجاملة والشهرة لا تُبنى أساساً على قيمة ما ينتجونه من أدب وإنما على أمور أخرى، والأمر ليس مقصوراً على الأدب فنحن نعيش ملهاة وماسأة كبرى في كافة نواحي الحياة".
ويضيف: "الإسكندرية كانت مزدهرة بالعقول الكوزموبوليتانية، وصارت الآن مدينة شائخة تحكمها ديكتاتورية البيروقراطية الغبية، فمثلما أنا متألم لما وقع للنوبة وعلى أسوان من ظلم، فأنا متألم لما وقع للإسكندرية، فكلتاهما وطني وكلتاهما مصر".
لا يقتصر شغف صاحب "ثلاث برتقالات مملوكية"، على تاريخ النوبة والإسكندرية فقط، ولكن يمتد إلى التاريخ المصري بصورة عامة بدءاً من الحضارة المصرية القديمة، مروراً بالحضارتين الإغريقية والرومانية، وصولاً إلى الحضارة العربية والإسلامية.
يستنطق أدول التاريخ عبر المرويات الشفوية، والروايات غير الرسمية، طارحاً رؤية تاريخية مغايرة تنطلق من الأفراد لا الجموع. عن سبب هذا الشغف بالتاريخ يقول: "في البداية لا بد أن أؤكد أن الأديب ليس مؤرخاً، وأنا شخصياً لا أكتب التاريخ، وإنما أكتب عن حالة من حالات التاريخ، فمن يقرأ روايتي عن الفترة المملوكية، لن يجد الشخصيات المملوكية المعروفة والمشهورة، بل شخصيات أخرى أقوم بتأليفها لتمثّل مناخ العصر المملوكي، وكذلك عندما أتناول أي حدث تاريخي أحاول أن أعيش هذه التجربة وأنقلها للقارئ، وأترك له مساحة للتخيّل والتفاعل. فما يميّز الأدب عن الكتابة التاريخية أنه يعطيك مساحة واسعة لرؤية الأشياء وتحليل الظواهر الاجتماعية وقراءة الماضي واستشراف المستقبل".
يتفق أدول مع مقولة أن الأدب ذاكرة المهمَّشين، مشيراً إلى أن كل نص أدبي يضع الكاتب فيه ملامح من روحه وحياته وتجاربه وخبراته: "مرحلة الطفولة هي الفترة التي يتشكّل فيها الإنسان، وتؤسس فيها ذاكرته"، ويضيف "نحن أسرى طفولتنا، فسنواتنا البكر الأولى من أهم المؤثرات على السنوات التي تليها كلها".
وحول أعماله القادمة يقول أدول حجاج: "أكتب حالياً واحداً من أهم مشاريعي الأدبية وأطولها، تحت عنوان "حكايات عبد الرحيم الوسيم"، وهي ملحمة شهرزادية تصل إلى عشرين رواية متصلة منفصلة".