حال سبيلنا

25 سبتمبر 2015
+ الخط -
لندع جانباً الصراع بين حركتي فتح وحماس، وتنافسهما على السلطة والخلافات الفكرية والسياسية بينهما، وما يفرزه الصراع من مبالغاتٍ في محاولات التشويه المتبادلة، كما يحصل في كل الصراعات لدى العرب، ماضياً وحاضراً. ولنترك آراء الداعمين للطرفين، فهي مشكوك في صدقيتها، وهذا من طبيعة الحال، فكل رأي يجهد في الوصول إلى إظهار جماعته في أحسن صورة، ويسعى إلى تجريم الجماعة المقابلة، حتى عندما يرى المراقبون عكس ذلك.
انتشر، أخيراً، في وسائل الإعلام، فيديو قصير يظهر عناصر من قوات الأمن الفلسطينية التابعة للسلطة في رام الله ينهالون ضرباً على فتى فلسطيني في بيت لحم، بتهمة محاولته ضرب القوات الإسرائيلية بالحجارة، في سياق ما يجري هذه الأيام في المسجد الأقصى من مواجهات مع جنود الاحتلال والمستوطنين. أثار الفيديو إدانة معظم الفلسطينيين من العامة، ومن النخب الثقافية والسياسية، وكُتب الكثير، وكأن حادثة الاعتداء على الفتى تحصل أول مرة. وبدا الأمر مستهجناً أن نرى عناصر من الشرطة تضرب شخصاً من الشعب، أو كأن الفلسطينيين، ولأنهم يخضعون لاحتلال عنصري، في منأى عن ممارسة القمع بحق بعضهم بعضاً. الغريب في ما تم تداوله من ردود أفعال أن من بين من كتبوا في الأمر كتاب نحترم تجربتهم في المسيرة الفلسطينية، وكأنهم اكتشفوا اليوم أن أجهزة الأمن الفلسطينية لا يمكن أن تقوم بمثل هذا العمل المرفوض، وكأن هويتها الفلسطينية كافية لكي تكون مختلفة عما تقوم به أجهزة الأمن العربية أو الإسرائيلية.
يحمل الفلسطينيون عموماً صورة مُرْضية عن أنفسهم، فهم يتوهمون أنهم أنقياء إلى حد التماهي مع الملائكة، إذا لم نقل مع الأنبياء، وهم يعتقدون أن قدسية قضيتهم كافية لتجعلهم مختلفين عن بقية الشعوب، بكل ما تحمله هذه الشعوب من أمراض ومثالب. وهم لا ينظرون إلى أجهزتهم الأمنية إلاّ من منظار الصراع مع العدو المحتل، ويستغربون أن تقوم هذه الأجهزة بممارسات قمعية ضد أبناء الشعب، حتى عندما تطلق، مثلاً، كتائب القسام التابعة لحركة حماس الصواريخ ضد إسرائيل، كما حصل في الحرب، صيف العام الماضي، على غزة، راح فلسطينيون كثيرون، نُخباً وعامةً، يهللون للكتائب ولحماس. وراح بعضهم يتغزل بقيادتها، لا بل هناك من كتب عن جاذبية ذلك القائد وسحره وكاريزميته، وكأنه أحد نجوم السينما. وقد نسوا أن أذرع حماس العسكرية والأمنية هي نفسها التي قتلت وسحلت، وأعدمت بلا محاكمات، أبرياء أو معارضين لسياستها وفكرها. ولو نظرنا إلى قوات الأمن في السلطة في رام الله، لما احتجنا جهداً كثيراً لندرك أن هذه الأجهزة تم تدريبها، وتجهيزها بوسائل القمع، ليس لمواجهة محتملة مع قوات الاحتلال أساساً، بل لضبط الأمن في مناطق السلطة، بحسب اتفاقاتٍ مع إسرائيل. وأن هذه البنية السيكولوجية القمعية ليست وليدة اليوم، ولا هي بالتأكيد وليدة الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل فقد علمتنا التجربة المعاشة أن الفصائل الفلسطينية كافة، يمينها ويسارها، أنشأت، ومنذ تأسيسها، أجهزة أمنية متعددة المهمات، منذ البدايات في الأردن ومروراً في لبنان، وقد قامت هذه الأجهزة بما هو شبيه بما نراه اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن، في غياب كامل للكاميرات ومواقع التواصل الاجتماعي الفاضحة.
من عاش تلك التجربة الماضية يعرف حكايات شتى، ولا يستغرب ما يجري اليوم. لم تستطع الفصائل لا "اليمينية" ولا "اليسارية" أن تؤسس لمنظومة قيم ثورية حقيقية في العلاقة مع المواطن، لا في السياسة، ولا في الأمن ولا في الاقتصاد ولا في الثقافة. وكل التخرصات والأوهام والكلام الفارغ حول الأمن الثوري التي تشدقت فيها فصائل اليسار، خصوصاً منذ نهاية الستينات والسبعينات، أثبتت التجربة صبيانيتها وخواءها وهزالها.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.