احتفت سراييفو هذا العام بصدور المجموعة الشعرية الأولى لرجل الدولة المعروف على المستوى الأوربي والعربي -الإسلامي حارث سيلاجيتش، والتي كشف فيها عن خلفيه أدبية وإبداع شعري فاجأ كثيرين. تعكس المجموعة خلاصة تجربة حياتية غنية وممتدة عبر الشرق والغرب والأكاديميا والسياسة، كان شاهداً فيها على أصعب الظروف التي مرّت بها بلاده البوسنة.
وعلى الرغم من أن سيلاجيتش معروف أكثر في العالم العربي كسياسي ورجل دولة (وزير خارجية ورئيس حكومة ورئيس جمهورية البوسنة خلال 1990-2010) ويتحدث العربية بطلاقة، إلا أن الجانب الفكري والأدبي والأكاديمي هو الإرث الذي قد يكون الأبرز في حياته، وهو ما تثبته المجموعة الشعرية الأخيرة التي حلّق فيها بتجربته شرقا وغربا.
ولد حارث سيلاجيتش عام 1945 في سراييفو لأب متضلع بالشرق وثقافته (كامل سيلاجيتش) وهو الأمر الذي أثر على نمط حياته وتابعه مع ذهابه إلى ليبيا في 1964 للدراسة في جامعة البيضاء، حيث تخرج من كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1971. وبعد عودته إلى يوغسلافيا تابع دراساته العليا في التاريخ بجامعة بريشتينا، وانضم للعمل إلى فرع الاستشراق بالجامعة الذي كان قد تأسّس لتوه.
وهكذا فقد برز سيلاجيتش أولا في المجال الأكاديمي (الاستشراق) على المستوى اليوغسلافي، حيث كان من أوائل من قرأ كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد في لغته الأصلية (الإنجليزية) ومن أوائل من استعرضه في اللغة العربية في مجلة "المعرفة" السورية (عدد 288 عام 1981).
ولكن في الوقت الذي كان سيلاجيتش يبرز بقوة في مجال الاستشراق على المستوى اليوغسلافي، جاء تصدّع وانهيار يوغسلافيا ليفرز المستشرقين أيضا ويدفعهم الى الانشغال بالسياسة في وجه التحديات التي كانت تواجه أوطانهم. ومن هؤلاء برز سيلاجيتش حين انضم إلى علي عزت بيغوفيتش في تأسيس أول حزب ديمقراطي (حزب العمل الديمقراطي) في 1990 وفي تولّيه منصب وزير الخارجية، ثم رئيس الحكومة خلال حرب البوسنة 1992-1995 المأساوية. ومن هنا نستذكر الآن ما كان يقوله سيلاجيتش عن حالته: "على الرغم من انشغالي إلا أنني لا أعتبر السياسة مهنتي، بل هي قدر وضرورة وطنية، وأفضل أن أكون مثقفا وأديبا وكاتبا من أكون مجرد سياسي"، وهو ما يؤكده بالفعل صدور المجموعة الشعرية الجديدة له.
صحيح أن سيلاجيتش كان في السنوات الأخيرة يكتب الشعر ولا ينشر منه إلا القليل، ويكتب المسرحيات التي اشتهرت منها "حمدي بك" التي عرضت بنجاح في البوسنة وخارجها، إلا أن خروجه بمجموعته الشعرية الجديدة بتوقيع ثلاثة من النقاد البوسنيين المعروفين (أسعد دوراكوفيتش وأسعد بايتال وسانين كودريتش)، أعاد سيلاجيتش بقوة إلى الساحة الثقافية شاعراً يحمل تجربة تتجاوز حدود البوسنة إلى حدود العالم، ويعبر عنها بشكل خاص بلغة أخاذة وصور مؤثرة.
تتميز المجموعة الشعرية أولا بعنوانها المعبّر (ساريتشا) الذي يحتمل معنيين يصلح كل منهما لتخيل مجموعة شعرية مختلفة: ملتقى الأنهار أو ملتقى الكلمات. وقد تصادف في اليوم التالي لحصولي على المجموعة الشعرية أن أزور منبع نهر البوسنة في ضاحية سراييفو، الذي استمدّت منه البوسنة اسمها، حيث توجد ينابيع عدة تشكّل ثلاثة روافد أولية تصبّ في مجرى واحد ( نهر البوسنة) الذي تصبّ فيه أنهار أخرى خلال اختراقه البوسنة، ليحمل الرمز الجامع للشخصية البوسنيّة المركبة من عدة إثنيات وأديان متعايشة. هناك، عند ملتقى الأنهار، كنت أتأمل المجاز في عنوان هذه المجموعة: من خلال ثقافة وتجربة المؤلف الواسعة بين الشرق والغرب، تبدو القصائد المتنوعة تمثل هذه الروافد الثقافية والإنسانية التي تصبّ في المجرى الكبير أو تغني روح الشاعر بكل هذه المكونات المختلفة.
في القصائد الخمسين للمجموعة المكثفة في عنوانيها ولغتها الشعرية وصورها المعبرة، والتي أضافت رسوم الفنان البوسني المعروف، أسمار مؤذنفيتش، إليها الكثير، يحلق بنا الشاعر في أرجاء البوسنة والعالم، حيثما هناك معاناة وعبر من الماضي للحاضر ورسائل للمستقبل.
فالمجموعة الشعرية تبدأ بقصيدة "إلى الأمهات" لا تعبّر الآن عن معاناة الأمهات في البوسنة نتيجة ما حلّ بهن خلال حرب 1992-1995 من قتل أولادهن واغتصاب بناتهن، بل تصبح الآن عالمية مع شيوع هذه الحالات في النزاعات والحروب التي استعرت ووصلت إلى جوارنا الآن. أما القصيدة الثانية "الحمراء" فهي تعبّر عن أحد الراوفد المهمة في شخصية سيلاجيتش، حيث يستدعي فيها الأندلس، وما تعنيه بالنسبة إلى الحاضر الأوروبي. فسيلاجيتش معروف بانتقاده السياسة الأوروبية تجاه فلسطين وعدم الاعتراف بالتعددية الدينية في أوروبا. فهو ينتقد منذ عقدين اقتصار الاعتراف الأوروبي بـ "الجذور اليهودية المسيحية" للقارة متجاهلة ثمانية قرون من الإسلام الحضاري في الأندلس، وستة قرون من الوجود الحضاري للمسلمين في البلقان، ولذلك فهو يستدعي دوما في خطابه "حالة الأندلس" تعبيراً عن نموذج فريد للتعايش الديني الذي لم تكن تعرفه بقية أوروبا. ونجد الشاعر يبث عبق التاريخ والحضارة الأندلسية في قصيدة أخرى بعنوان "هكذا يتذكر الزيتون".
وعلى ذكر الزيتون، فهو رمز قوي عند سيلاجيتش لفلسطين الحاضرة بقوة في هذه المجموعة الشعرية. فلدينا هنا ثلاث قصائد معبّرة عن فلسطين: "متى يسقط الجدار" و"صبي في فلسطين" و"سمعت الفلسطينيين"، يشترك فيها الرمزان: الزيتون والجدار العازل الباقي على الرغم من رأي محكمة العدل الدولية. فالزيتون رمز فلسطين والفلسطينيين الذي يصبح من "الأهداف المعادية" للمستوطنين، على حين أن الجدار العازل يمثل دولة الاحتلال الذي لا بد أن يسقط في خريف ما، لتبقى شجرة الزيتون تعبّر بخضرتها عن أصحاب الأرض، وهو ما يبدو بشكل خاص في قصيدة "متى يسقط الجدار" التي يسوقها على لسان الطفلة الفلسطينية منى التي تعبّر عن التفاؤل بالمستقبل التي اخترناها هنا للترجمة.
ومع "ملتقى الكلمات"، إذا أخذنا المعنى الآخر الكامن في العنوان، يمكن القول إن قصائد هذه المجموعة الشعرية تستحق الترجمة إلى العربية، وليس مجرد الإشارة إليها لأن القارئ العربي سيكتشف معها الوجه الآخر (الأعمق والأوسع) لرجل الدولة حارث سيلاجيتش الذي فضّل أن يعتزل السياسة بكرامة، ليعود إلى ما كان يتمناه ويفضّله: المثقف والكاتب.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
متى يسقط الجدار؟
تتساءل منى:
متى يسقط الجدار،
لماذا سقطت أوراق الأشجار،
وأين ذهبت الأزهار
ولماذا لم يعد الزيتون
يبدو هنا وهناك،
ولماذا يمتدّ الجدار
في البستان؟
أجابتها أمها:
في الخريف تسقط أوراق الأشجار
لكي تعود الأزهار أجمل من قبل،
ولكنها لم تعرف
لماذا يمتدّ الجدار
في البستان.
أجابت منى:
لا تقلقي يا أماه، شاهدتُ طائرا في الحلم
سيعطيني عينا،
سنرى المزيد من الزيتون
وننتظر الخريف
حتى يسقط الجدار.
(ترجمة : م. الأرناؤوط)
وعلى الرغم من أن سيلاجيتش معروف أكثر في العالم العربي كسياسي ورجل دولة (وزير خارجية ورئيس حكومة ورئيس جمهورية البوسنة خلال 1990-2010) ويتحدث العربية بطلاقة، إلا أن الجانب الفكري والأدبي والأكاديمي هو الإرث الذي قد يكون الأبرز في حياته، وهو ما تثبته المجموعة الشعرية الأخيرة التي حلّق فيها بتجربته شرقا وغربا.
ولد حارث سيلاجيتش عام 1945 في سراييفو لأب متضلع بالشرق وثقافته (كامل سيلاجيتش) وهو الأمر الذي أثر على نمط حياته وتابعه مع ذهابه إلى ليبيا في 1964 للدراسة في جامعة البيضاء، حيث تخرج من كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية عام 1971. وبعد عودته إلى يوغسلافيا تابع دراساته العليا في التاريخ بجامعة بريشتينا، وانضم للعمل إلى فرع الاستشراق بالجامعة الذي كان قد تأسّس لتوه.
وهكذا فقد برز سيلاجيتش أولا في المجال الأكاديمي (الاستشراق) على المستوى اليوغسلافي، حيث كان من أوائل من قرأ كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد في لغته الأصلية (الإنجليزية) ومن أوائل من استعرضه في اللغة العربية في مجلة "المعرفة" السورية (عدد 288 عام 1981).
ولكن في الوقت الذي كان سيلاجيتش يبرز بقوة في مجال الاستشراق على المستوى اليوغسلافي، جاء تصدّع وانهيار يوغسلافيا ليفرز المستشرقين أيضا ويدفعهم الى الانشغال بالسياسة في وجه التحديات التي كانت تواجه أوطانهم. ومن هؤلاء برز سيلاجيتش حين انضم إلى علي عزت بيغوفيتش في تأسيس أول حزب ديمقراطي (حزب العمل الديمقراطي) في 1990 وفي تولّيه منصب وزير الخارجية، ثم رئيس الحكومة خلال حرب البوسنة 1992-1995 المأساوية. ومن هنا نستذكر الآن ما كان يقوله سيلاجيتش عن حالته: "على الرغم من انشغالي إلا أنني لا أعتبر السياسة مهنتي، بل هي قدر وضرورة وطنية، وأفضل أن أكون مثقفا وأديبا وكاتبا من أكون مجرد سياسي"، وهو ما يؤكده بالفعل صدور المجموعة الشعرية الجديدة له.
صحيح أن سيلاجيتش كان في السنوات الأخيرة يكتب الشعر ولا ينشر منه إلا القليل، ويكتب المسرحيات التي اشتهرت منها "حمدي بك" التي عرضت بنجاح في البوسنة وخارجها، إلا أن خروجه بمجموعته الشعرية الجديدة بتوقيع ثلاثة من النقاد البوسنيين المعروفين (أسعد دوراكوفيتش وأسعد بايتال وسانين كودريتش)، أعاد سيلاجيتش بقوة إلى الساحة الثقافية شاعراً يحمل تجربة تتجاوز حدود البوسنة إلى حدود العالم، ويعبر عنها بشكل خاص بلغة أخاذة وصور مؤثرة.
تتميز المجموعة الشعرية أولا بعنوانها المعبّر (ساريتشا) الذي يحتمل معنيين يصلح كل منهما لتخيل مجموعة شعرية مختلفة: ملتقى الأنهار أو ملتقى الكلمات. وقد تصادف في اليوم التالي لحصولي على المجموعة الشعرية أن أزور منبع نهر البوسنة في ضاحية سراييفو، الذي استمدّت منه البوسنة اسمها، حيث توجد ينابيع عدة تشكّل ثلاثة روافد أولية تصبّ في مجرى واحد ( نهر البوسنة) الذي تصبّ فيه أنهار أخرى خلال اختراقه البوسنة، ليحمل الرمز الجامع للشخصية البوسنيّة المركبة من عدة إثنيات وأديان متعايشة. هناك، عند ملتقى الأنهار، كنت أتأمل المجاز في عنوان هذه المجموعة: من خلال ثقافة وتجربة المؤلف الواسعة بين الشرق والغرب، تبدو القصائد المتنوعة تمثل هذه الروافد الثقافية والإنسانية التي تصبّ في المجرى الكبير أو تغني روح الشاعر بكل هذه المكونات المختلفة.
في القصائد الخمسين للمجموعة المكثفة في عنوانيها ولغتها الشعرية وصورها المعبرة، والتي أضافت رسوم الفنان البوسني المعروف، أسمار مؤذنفيتش، إليها الكثير، يحلق بنا الشاعر في أرجاء البوسنة والعالم، حيثما هناك معاناة وعبر من الماضي للحاضر ورسائل للمستقبل.
فالمجموعة الشعرية تبدأ بقصيدة "إلى الأمهات" لا تعبّر الآن عن معاناة الأمهات في البوسنة نتيجة ما حلّ بهن خلال حرب 1992-1995 من قتل أولادهن واغتصاب بناتهن، بل تصبح الآن عالمية مع شيوع هذه الحالات في النزاعات والحروب التي استعرت ووصلت إلى جوارنا الآن. أما القصيدة الثانية "الحمراء" فهي تعبّر عن أحد الراوفد المهمة في شخصية سيلاجيتش، حيث يستدعي فيها الأندلس، وما تعنيه بالنسبة إلى الحاضر الأوروبي. فسيلاجيتش معروف بانتقاده السياسة الأوروبية تجاه فلسطين وعدم الاعتراف بالتعددية الدينية في أوروبا. فهو ينتقد منذ عقدين اقتصار الاعتراف الأوروبي بـ "الجذور اليهودية المسيحية" للقارة متجاهلة ثمانية قرون من الإسلام الحضاري في الأندلس، وستة قرون من الوجود الحضاري للمسلمين في البلقان، ولذلك فهو يستدعي دوما في خطابه "حالة الأندلس" تعبيراً عن نموذج فريد للتعايش الديني الذي لم تكن تعرفه بقية أوروبا. ونجد الشاعر يبث عبق التاريخ والحضارة الأندلسية في قصيدة أخرى بعنوان "هكذا يتذكر الزيتون".
وعلى ذكر الزيتون، فهو رمز قوي عند سيلاجيتش لفلسطين الحاضرة بقوة في هذه المجموعة الشعرية. فلدينا هنا ثلاث قصائد معبّرة عن فلسطين: "متى يسقط الجدار" و"صبي في فلسطين" و"سمعت الفلسطينيين"، يشترك فيها الرمزان: الزيتون والجدار العازل الباقي على الرغم من رأي محكمة العدل الدولية. فالزيتون رمز فلسطين والفلسطينيين الذي يصبح من "الأهداف المعادية" للمستوطنين، على حين أن الجدار العازل يمثل دولة الاحتلال الذي لا بد أن يسقط في خريف ما، لتبقى شجرة الزيتون تعبّر بخضرتها عن أصحاب الأرض، وهو ما يبدو بشكل خاص في قصيدة "متى يسقط الجدار" التي يسوقها على لسان الطفلة الفلسطينية منى التي تعبّر عن التفاؤل بالمستقبل التي اخترناها هنا للترجمة.
ومع "ملتقى الكلمات"، إذا أخذنا المعنى الآخر الكامن في العنوان، يمكن القول إن قصائد هذه المجموعة الشعرية تستحق الترجمة إلى العربية، وليس مجرد الإشارة إليها لأن القارئ العربي سيكتشف معها الوجه الآخر (الأعمق والأوسع) لرجل الدولة حارث سيلاجيتش الذي فضّل أن يعتزل السياسة بكرامة، ليعود إلى ما كان يتمناه ويفضّله: المثقف والكاتب.
(أكاديمي كوسوفي/ سوري)
متى يسقط الجدار؟
تتساءل منى:
متى يسقط الجدار،
لماذا سقطت أوراق الأشجار،
وأين ذهبت الأزهار
ولماذا لم يعد الزيتون
يبدو هنا وهناك،
ولماذا يمتدّ الجدار
في البستان؟
أجابتها أمها:
في الخريف تسقط أوراق الأشجار
لكي تعود الأزهار أجمل من قبل،
ولكنها لم تعرف
لماذا يمتدّ الجدار
في البستان.
أجابت منى:
لا تقلقي يا أماه، شاهدتُ طائرا في الحلم
سيعطيني عينا،
سنرى المزيد من الزيتون
وننتظر الخريف
حتى يسقط الجدار.
(ترجمة : م. الأرناؤوط)