جيل لوكليرك.. بلجيكي في تلمسان وبسكرة

08 سبتمبر 2018
(خطاطة لواحة تيوت في الجزائر، 1839)
+ الخط -

بعد رحلتين سابقتين؛ الأولى إلى طنجة عام 1878، والثانية إلى موكادور (الصويرة) عام 1880، منطلقاً منها إلى عدد من المدن المغربية وعائداً إلى طنجة، سيعقد جيل لوكليرك، الرحّالة والجغرافي البلجيكي، العزم على القيام برحلة ثالثة إلى الجزائر في السنة نفسها، أي عام 1880.

من المهم التذكير هنا أن الجزائر كانت في ذلك الوقت تحت هيمنة الاستعمار الفرنسي، أي بعد خمسين سنة من وجود الفرنسيّين (جرى الاحتلال عام 1830).

وإذا كانت الرحلتان السابقتان قد تميزتا بتوجيه نقد قوي إلى السلطة المركزية الحاكمة في المغرب، بعدم تأهيل البلاد، وتركها تعيش في عالم القرون الوسطى، فإن رحلة الجزائر تتميّز على وجه الخصوص، كما يشير إلى ذلك بوشعيب الساوري، مترجم كتاب "من موداكور إلى بسكرة: رحلات داخل المغرب والجزائر"، بتوجيه اللوم إلى الاستعمار الفرنسي، الذي عمل على إخضاع السكان المحليين والتنكيل بهم، وعطّل الكثير من المعالم العمرانية العربية الإسلامية.

والرحلة تحديداً تمّت من المغرب، عبر الطريق البري، وبدأت من تلمسان، وشملت منطقة القبايل الجزائرية، وعدد آخر من المدن، وكانت آخر منطقة في رحلته هي سيدي عقبة، في ولاية بسكرة، التي تبعد عن العاصمة الجزائر بحوالي 450 كيلومتراً.

ولا نعرف بالتحديد لماذا اختار لوكليرك هذا المجال الجغرافي لرحلته، ولم يزر أماكن أخرى، هل بسبب مخاوف من مضايقة السلطات الفرنسية له، أم لأن الحركة كانت متيسّرة له في المناطق وآمنة، على خلاف المناطق الأخرى، من دون أن يغيب عن الأذهان أن سنة 1880 كانت قد عرفت سيطرة شبه كلية للمستعمر الفرنسي على الأراضي. فحركة الأمير عبد القادر الجزائري كانت قد انتهت بسقوط إمارته في الغرب الجزائري، والتي امتدت إلى بسكرة في سنة 1847، بعد توقيع معاهدةٍ مع الفرنسيّين.

لكل ذلك، كان الأثر المدمّر للحرب بادياً على المدن التي مر منها لوكليرك، فقد عمد الفرنسيون، أثناء محاصرتهم هذه المدن المقاومة، إلى تدمير عمرانها الإسلامي وتخريب أسوارها، وقد بقي ذلك لعقود طوال. فما هي الالتقاطات التي التقطها الرجل؟ وما هي انطباعاته التي دوّنها في هذه الرحلة؟

فرنسة المدن
يقول في مفتتح وصوله إلى تلمسان "لا شيء أروع من الوصول إلى تلمسان فجراً، بالكاد يمكن أن نتخيّل لوحة جذابة، برؤيتها ننسى في لحظة واحدة كل أتعاب السفر. كنا ما نزال على بعد فرسخين من المدينة التي رأينا قبل الآن، مآذنها البيضاء تنبثق مثل سراب بعيد. كانت المدينة المحبوسة داخل سورها المحصن، مضطجعة فوق هضبة تشرف عليها من جبال عالية جدا ضواحي جميلة. من أمام المدينة تظهر قرية بومدين المجاورة، بيضاء مثل حمامة، معلقة بجرأة على جوانب الصخور".

لكنه سيصاب بخيبة أمل، وهو يلج المدينة، كان يتصوّرها ما تزال محافظة على النمط العربي، فإذا به يجدها مدينة أوروبية، مليئة بالضباط، يقول: "وجدت تلمسان مفرنسة، ومعبدة الطرق ومتحضرة، باختصار، بمقاهٍ تعج بالضباط". على الرغم من الطابع العربي الإسلامي الظاهر عليها.

بطبيعة الحال، لا بد، كما هو ديدن الرحالة الأوروبيّين، من بعض البهارات، والتركيز على "المختلف"، الذي يمنح لكتابتهم تلك "الشعبية" التي يرغبون في تحقيقها. فالرحالة الغربي يكتب وفي ذهنه صورة لقارئ معين، أو لقراء محتملين، أولئك الذين يهتزون نشوة عند وصف لقطة أو ممارسة اجتماعية معينة أو سلوك أو بعض المساوئ المستمرة، التي يعدونها اكتشافا ودليلا على "بقايا حياة بدائية".

ومن ذلك حديثه عن طقوس الصلاة عند المسلمين في تلمسان، أو كيفية التمسح بالأولياء والأضرحة، يقول مثلاً: "ذهب المريدون إلى درب مجاور، وتوقفوا تحت الظل المنعش لدالية معمرة. كان يوجد هناك بيت صغير متواضع كان مقر إقامة ولي يحمل اسم أحمد بن حسن المتوفى منذ أربعة قرون، ترقد بقاياه في الداخل المتحول إلى مصلى: رأيت عبر النافذة الصغيرة للمزار المؤمنين يقبلون تابوت هذا الولي الموقر، الذي كانت تغطيه أثواب كثيرة".

سيجد لوكليرك نفسه نهباً لمشاعر متضاربة وهو يدوّن مشاهداته عن مدينة تلمسان وعراقتها ورجالاتها، بل إنه زار حتى مقابرها وفوجئ بهذه الهندسة البديعة للمقبرة الإسلامية، حيث "تتراكم منذ قرون عظام المغاربة".

ولكنه سيأخذه السحر كله، عندما يزور قبة الولي الصوفي أبي مدين، إذ سيصعق للهندسة البديعة التي تسم الضريح والقبة، ودرجة التوقير الكبيرة التي يحظى بها هذا الولي الصالح من طرف أهل تلمسان، يكتب مثلا "يرقد الولي في مدخر من خشب منحوت ومغطى بنسيج مطرز بإفراط. علقت فوق المدخر شموع طويلة وبيض النعام، ورايات ومصابيح مغربية. كان الجو مشربا برائحة الآس الزكية، وكان هناك ضوء لطيف مخفف بألوان زجاجية ملونة، طبعت كل الأشياء بنوع من الغموض".

سيمر لوكليرك مرور الكرام بوهران وبالعاصمة الجزائر، لقد كان الهدف هو الذهاب إلى منطقة القبايل، وفي الطريق إليها يمر بـ "رغاية"، وفيها يصف هذا المشهد المؤلم، لاستعباد الناس البسطاء والفلاحين المحليين، شاحبي الملامح والمرضى بالحمة بسبب المستنقعات المنتشرة في القرية.

ولذلك يقول ناقماً: "يا له من عديم التبصر ذاك الذي اختار مكاناً مثل هذا ليؤسس فيه قرية! إذا لم يستطع الأوروبيون العيش في الأودية، لماذا لا يخلقون قرى في الجبال؟ المزارعون المعمرون في هذا الجزء من الجزائر هم في أغلبهم من الألزاس ومن اللورين، أتوا إلى هنا للبحث عن وطن جديد اعتقاداً بالوعود الجميلة".

تمرّد القبايل
عرف القبايليون بالشراسة في مقاومة المستعمر الفرنسي، ولم يسلموا القياد له أبدا، حتى بعد أن هيمن جزئيا على البلاد، إذ كانت سرعان ما تقوم انتفاضات هنا أو هناك. يوثق لوكليرك لهذا الأمر أثناء رحلته إلى تلك المناطق.

يقول: "حكت لنا المضيفة أثناء الغداء كل حوادث الحصار التي تحمّلها الحصن الوطني أثناء تمرد القبايل سنة 1871. كانت على علم بما كان يحدث بواسطة قبايلي قتل من قبل ذويه حين اكتشفوا أنه جاسوس 15 يوماً قبل بداية الاعتداءات، كان بإمكانها الفرار لكنها لم ترد".

ويضيف: "ابتدأ الحصار يوم 16 أبريل واستمر حتى يوم 16 يونيو، وبما أن الحصن كان في حالة جيدة للدفاع، والتي هو عليها اليوم، فقد تم إبعاد المحاصرين بسرعة، لكن الأشغال لم تكن قد انتهت بعد، وأن المحاصرين كانوا قلة، علاوة على ذلك، وكان القبايليون سيدخلون إلى المكان لو تجرؤوا على محاولة تسلق الحصن. لقد حملوا معهم سلالم، لكنهم لم يكونوا يملكون الشجاعة لاستعمالها، وجدوا من السهل جداً إخضاع المحاصرين بالمجاعة، وهذا ما كان سيحصل، لو لم يأت الجنرال سيريز ولالمان أخيراً لإنقاذ المكان".

جمال الطبيعة
يقف لوكليرك منبهراً أمام جمال الطبيعة في منطقة القبايل، ففي هذا المدى الجغرافي الجبلي توجد أجمل أودية العالم، حتى إنه ليقارنها بأمكنة أخرى وفضاءات مغايرة.

فعلاوة على المسالك الوعرة التي تتطلب صلابة قوية وجلداً، هناك التشكل التضاريسي البديع لهذه المنطقة والهواء النقي الصافي الذي يبدو شفافاً للغاية.

يكتب "بعد أن سلكنا هذه الطريق السهلة على مسار سبعة كيلومترات، دخلنا يميناً في ممر بغال قادنا إلى أقصى وادٍ نجهل اسمه، ولكنه من أجمل المواقع التي صادفتها منذ سفري بالجبال".

ويُفصح عميقاً عن أن لبه قد خُلب بهذه المناطق، حتى إنه يقارنها بمناطق أخرى في العالم، ربما أكثر جمالاً، لكنه يعطي لمنطقة مرتفعات وجبال القبايل حقها من التقدير، ويمهرها وصفاً وتقريضاً، يقول: "لا الألب ولا البيريني أكثر إغراء من أودية القبايل هذه. والذي يفتن هو هذه الأعشاب الأفريقية التي تنمو بشدة خارقة في هذه الجبال التي تحجب رياحاً صحراوية جافة. إذا كانت توجد بالعالم حديقة أرميد، فإنها البلد الذي نسير فيه في هذه اللحظة، فالأنواع الغابوية المختلفة جداً توجد مجتمعة بها: أشجار الزيتون والرمان والبلوط الأخضر والفلين والقطلب والدفلى والسنديان الأخضر، ترتفع حولنا، في تنوّع لا نهائي للأشكال والأوراق".

راقصات الصحراء
سيخوض لوكليرك مغامرة أخرى في بسكرة، حيث السهل الصحراوي الممتد، وحيث السماء تأخذ شكل السواد في المساء، ويأتي المطر من دون موعد، وتهب العاصفة الرملية فجأة. لكن في واحة بسكرة سيكون الأمر مختلفاً، حياة أخرى في قلب الصحراء، حياة خضراء في صلب هذه الجهامة وهذه الطبيعة القاسية العسيرة على الترويض.

من أجمل اللوحات في رحلة لوكليرك حديثه عن الراقصات النايليات في بسكرة، يكتب "لا يمكن أن نغادر بسكرة دون مشاهدة النايليات (نسبة إلى قبائل أولاد نايل، كبرى القبائل في الجزائر، من أصول عربية) يرقص، إنهن العالمات أو راقصات الصحراء الهنديات. تنتمين إلى قبيلة أولاد نايل، المقيمة في هذا الجزء من الصحراء الممتد من الأغواط إلى بوسعادة.

تقيم هؤلاء النسوة، اللواتي لهن فكرة أخرى عن الفضيلة تختلف تماماً عن تلك التي عندنا ببسكرة حين يجمعن ما يكفي من السكينات (نقد محلي)، ليجعلن منها حلياً يضعنها على جباههن: حينها يعدن إلى قبيلتهن، وسواء كن قبيحات أو جميلات، يجدن أزواجاً".

وهو يفصّل بدقة طريقة لباسهن، والوشوم، ويتحدث عن مستوى جمالهن، الذي يصفه بأنه في أدنى درجات الجمال وأعلى مستويات القبح، كما يعرض لرقصهن غير المحتشم في المقاهي، وينأى بنفسه عن وصف ذلك الرق، المخل حسب وصفه بقواعد الآداب والسلوك، يقول "لا يوجد شيء أكثر غرابة من بدلات النايلات، حين التقيناهن لأول مرة في دروب بسكرة انتابنا اندهاش يعجز اللسان عن وصفه: لا يوجد لا بالهند ولا باليابان ولا الصين شيء مماثل لذلك باعتقادي.

للرأس خصوصاً تأثير بشع قطعاً. شعر رائع باهت الشكل إلى حد كبير، في كل جهة من الوجه قعصة ضخمة تجعل الرأس عريضاً ضخماً، قناة الرؤوس مغطاة بقطع من الحرير بألوان حادة، ومعجر يتوج كل هذه العظمة. تكمل عدة فساتين واسعة جداً مشدودة بأحزمة ومغطاة بحياك من السب، هذا اللباس المضحك الغريب، الأذرع والسيقان والآذان مزينة بكثير من الحلي الفضية التي كان طنينها المخشحش يعلن من بعيد وصول تلك النايلات.

أعناقهن محاطة بالعديد من القلادات اللؤلؤية من المرجان والفضة والجباه محجوبة تحت صفوف عديدة من السكينات، وكانت الوجوه والأيدي موشومة بغرابة برسوم حناء. هذا الصنف لا يذكر بشيء بالمغربيات، يبدو أن أولاد نايل يعودون إلى عرق آخر. أغلب تلك النساء قبيحات تماماً، ولم نر صراحة فيهن أي جميلات حقيقيات".

لم يستطع لوكليرك إكمال رحلته، بسببب إصابته بالحمى، ليغادر فوراً نحو قسنطينة من أجل العلاج. وبعد أن أصبح قادراً على الوقوف أبحر نحو بلجيكا، مسقط رأسه، ليستكمل علاجه. لكنه في نهاية رحلته يعبر عن أسفه لأنه على الرغم من رحلته المغاربية هذه، لم يستطع أن يزور فاس ومراكش، معتبراً، حسب القول الشائع عند المسلمين، أن ذلك كان أمراً مقدّراً، وأنه لم يكتب له ذلك.


دلالات
المساهمون