"أن تعود"، أول أفلام المخرجة الفرنسية جسيكا بالو، فازت عنه بجائزة أفضل سيناريو في قسم "أوريزونتي" في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي". يروي الفيلم، الذي يأتي بعد سلسلة أفلام قصيرة أهمها "مارلون"، عودة توما (نيلز شنايدر) إلى قريته، حيث يقابِل مونا (أديل اكساركوبولوس)، زوجة شقيقه المتوفى، وابنها أليكس (رومان كوستير هاشيز). تقدّم بالو فيه عملاً متماسكاً، يُمعن في الحميمية، ويذكّر بعوالم سينمائيين، كموريس بيالا.
في الآتي، لقاء "العربي الجديد" مع جيسيكا بالو.
"أن تعود" فيلمكِ الروائي الطويل الأول. كيف تعلّمت إنجاز الأفلام؟
صحيح أنّ هذا باكورة أعمالي، لكنّي أنجزتُ أفلاماً قصيرة ومتوسّطة الطول قبله. تعلّمتُ كثيراً وأنا أشتغل مساعدة مخرج طوال سنوات، مع سينمائيين مختلفين جداً بعضهم عن البعض الآخر. أحببتُ هذه المهنة دائماً. أجدها رائعة. لكنّ حلمي كان دائماً أنْ أُخرِجَ. لديّ قصص أرويها. أولي التفاصيل اهتماماً فائقاً. هذا كلّه يُشكّل شغفاً لي. لا يوجد بين السينمائيين الذين عملتُ وإياهم مَنْ أعتبره مرجعاً لي. لم يكن أيّ منهم مصدراً للإلهام. أحبّ سينمائيين أمثال هيروكازو كوريه إيدا وجاك أوديار وموريس بيالا. أذكر فيلماً كـ"أوسلو، 31 آب" لجواكيم ترير كمدرسة سينمائية.
هناك تشابهٌ بين فيلمي القصير "مارلون" و"أن تعود"، لغوصهما في تفاصيل عائلية، ولأنّ أحداثهما تجري في مكان واحد. هناك شيء يمسّني جداً في تناول حكايات الأسرة، ويعجبني الذهاب إلى أبعد من ذلك.
الفيلم اقتباس حرّ جداً لرواية "الحبّ من دون أنْ نمارسه" لسيرج جونكور. ما الذي لفتك في صفحاتها؟
اكتشفتُ الرواية قبل 5 أعوام، وبسرعة بدأتُ أشتغل عليها. ما لمسني فيها هو هذا الرجل الذي يهجر الريف ليستقرّ في المدينة، بحثاً عن تجربة حياتية أخرى، ثم يعود بعد بضعة أعوام إلى هذه المزرعة البعيدة من كلّ شيء. في الكتاب، لا يبقى للرجل إلا بضعة أيام يعيشها. القصّة مطابقة جداً لقصّة "فقط نهاية العالم" لكزافييه دولان. أدركتُ أنّه ما عاد ممكناً لي أنْ أرويها على هذا النحو. لجأتُ حينها إلى إدخال مجتمع المزارعين إلى الفيلم. إذاً، كما ذكرتَ، الاقتباس حُرّ جداً. أول مائة صفحة من الرواية غير موجودة في الفيلم.
الفيلم مُتجذّر للغاية في واقع اجتماعي صرف.
أجل. صحيحٌ أنّ الجانب الاجتماعي في الفيلم ظاهرٌ وقوي جداً، لكنْ في النهاية لا يُمكن حصره في هذا الإطار فقط. هناك أشياء أخرى. هناك تناولٌ للعائلة والعلاقات البشرية. وددتُ أنْ أصوّر كيف أنّ عائلة مفكّكة تنجح في إعادة بناء نفسها بنفسها. لكن نعم، يستهويني الحديث عن مواضيع جدّية وشؤون عميقة أراها وأتفاعل معها في محيطي.
في الفيلم، العديد من الشؤون المعلّقة، ومن المسكوت عنه.
هذا الأسلوب أتاح لي إنجاز فيلم عنيف ورقيق في الوقت نفسه. ما تراه مسكوتاً عنه هو طريقتي، وهذه أكثر ما تعبّر عن أفكاري سينمائياً. أفضّل التقشّف على الهستيريا. هذا النمط من العمل يشبهني. إلا أنّ السبب الأساسي في لجوئي إليه هو أنّه يُعبّر عن حاجة الشخصيات، كونها تعاني مشكلة التواصل بعضها مع البعض الآخر. رغبتُ في أنْ أبقى على أقرب مسافة ممكنة منها ومن مشاعرها. هكذا هي الحياة: عندما تستمرّ بعض الصراعات لأعوامٍ تتعقّد الأمور. كلّ إنسان يتعامل معها على طريقته. هناك مَن يقاربها بكبتٍ، وهناك مَن يقاربها بهستيريا.
نفهم جيداً أن هناك أشياء ليست على ما يرام بين الشخصيات، ولكن لا نفهم طبيعتها. تحجبين شرحاً ومعلومات كثيرة.
تركتُ مسائل عدّة على قدرٍ من الضبابية بين شخصيتي الأب والابن. ما يهمّني في السينما هو الإيحاء والانفعال وما تصنعه الصورة من مشاعر بلا إفصاح عنها بشكل مباشر. لستُ ميّالة إلى الأفلام التي تقول كلّ شيء، التي تشرح وتستنتج. خصوصاً أنّنا حيال قصة تجري أحداثها في 5 أيام. كان يمكنني إدراج معلومات كثيرة في سياق الأحداث، لكنّي لا أجد نفسي في هذا النوع من السينما.
هناك دقّة عالية في التكوين البصري وصناعة المشهد. كيف اشتغلتِ هذا الجانب؟
لم يحظَ فيلمي هذا بموازنة عالية. صوّرته في 4 أسابيع فقط. كان تصويراً ممتازاً. سعيتُ إلى التركيز على القصّة، ونقل حكاية الشخصيات، وعدم القفز إلى أماكن أخرى. لو توفّرت لي الإمكانات، لكنتُ حاولتُ أشياء أخرى ربما. عملي كمساعدة مخرج ساعدني جداً لأدير طاقماً كان يعمل طوال 8 ساعات يومياً. على مستوى التقنيات، عملي السابق مع سينمائيين زادني قوةً واندفاعاً. أعرف أسرار البلاتو. أما على المستوى الفني، فلا يسعني شرح ما أحبّه وما أبغضه. أحبّ التصوير والتكوين وغيرهما من المسائل الجمالية. لذا، هذا كله يأتيني بلا تفكير كثير، بل غريزياً. يصعب عليّ دائماً شرح الأشياء التي تقيم في داخلي.
نعم، والطفل يضطلع هنا بدور مهم في تقريب وجهات النظر. النقاشات الجادة تمرّ عبره. الأطفال يحافظون على سذاجتهم في الأوقات الصعبة. الفيلم يتكلّم أيضاً عن مسألة التداول. المزارعون جميعهم، الذين التقيتهم وأجريتُ معهم لقاءات لإنجاز الفيلم، يتحدّثون عن أطفالهم. المزرعة التي صوّرنا فيها، عاش ناسها الحكاية نفسها التي أرويها، وهذا أكثر ما صدمني. اكتشفتُ بيئة ريفية حيث الأب لا ينادي ابنه ليطلب إليه مساعدة.
نظرتك داكنة للعلاقات بين البشر.
لم أنجز فيلماً كوميدياً (ضحك). هذا أضعف الإيمان. في المقابل، أعتقد أنّه ليس فيلماً داكناً، بل عمل مليء بالحياة، ويشعّ بالأمل. طبعاً، الأحداث التي نتابعها تحصل في 5 أيام. تلك الأيام ليست وردية. لا أعرف إذا كانت نظرتي يائسة، لكن هذا يحصل في حياة هؤلاء، عندما يعيشون مرحلة صعبة. حرصتُ على إنجاز فيلم لا يقفل الباب على الأمل. فيلم مضيء. ما صوّرته من مناظر للجبل خير دليل.
هل تجدين أنّ هناك عنصراً في الفيلم تقدّمتِ به على العناصر الأخرى؟
أعتقد أنّ الفيلم شيءٌ كليّ. أهم ما عندي هو أن أؤمن بالشخصيات، وأوصل حكايتها إلى المُشاهد بأمانة تامة. في الفيلم، وددتُ أنْ أحفر في مكانٍ ضيق جداً. في هذا النوع من الحكايات، الأهم هو أنْ نصدّق. كلّ شيء ينهار إذا كانت الشخصيات غير قابلة للتصديق. لا يمكن أنْ يتماهى المُشاهد مع الشخصيات كلّها في الفيلم. هذا غير ممكن. لكن، على الأقل، يُمكنه أنْ يصدّق ما تعيشه من تفاصيل حياتية.
كيف اخترتِ الممثّلين؟
اختيارهم حصل تدريجاً. طبعاً، هناك ممثّلون أحبّهم أكثر من غيرهم. في هذا، أنا شبيهة بالمخرجين جميعهم. أعتقد أن هناك عائلة من السينمائيين والممثّلين يليق بعضهم بالبعض الآخر. نيلز شنايدر مثلاً يفرز شيئاً أمام الكاميرا يعجبني جداً. يضفي على الشخصية شيئاً من الغموض، مُستخدماً القليل جداً من الكلام. أخضعتُ كثيرين قبله لامتحان الـ"كاستينغ"، لكنْ ما كان يصدر منه أعطاني الرغبة في تصويره. جزء أساسي من العمل السينمائي هو أن تتولّد لديك كمخرج الرغبة في تصوير أشخاص يثيرون انتباهك. على هؤلاء الأشخاص أنْ يبهروني أولاً، وممثّلو الفيلم جميعهم كانوا من هذا الصنف. لا أحبّ كتابة السيناريو وفي بالي ممثّلون معيّنون. الممثّلون الذين اخترتهم خضعوا لـ"كاستينغ"، وهذه أصعب مرحلة، لأنّ الفيلم ربما يفشل إذا اخطأتُ في انتقاء الممثّل. أما أديل اكساركوبولوس، فوجدتها الأفضل بين الممثّلات اللواتي التقيتهنّ. الشخصية كانت هي من دون أدنى شك. لقائي بها كان حاسماً. أديل أمٌّ شابّة على الشاشة كما في الحياة. أسندتُ إليها الدور في مرحلة مناسبة من حياتها، وبدأت تجسّد نساء أكثر نضجاً.
هل مشاركتك في "مهرجان فينيسيا" مع أول فيلم لكِ مارست عليكِ ضغطاً؟
شعرتُ بالضغط في الأيام الأولى لعرض الفيلم في المهرجان. لكن إيماني أنّ على الإنسان أنْ يعيش لحظة كهذه بتفاصيلها كلّها. إنّها لحظة ساحرة. محظوظةٌ أنْ فيلمي عرض مع 19 فيلماً آخر. "مارلون" شارك في مهرجانات دولية مهمّة وكثيرة، ومع ذلك يبقى فيلماً قصيراً، أي لا تسلَّط عليه أضواء كثيرة، ولا يُعرض في الصالات. جمهور الفيلم القصير محصور في المهرجانات. صحيح أنّي لا أفكّر بالجمهور عندما أنجز فيلماً، لكنْ لا أخفي أنّ ردّ فعله مهمّ عندي. خلال مرحلة الكتابة، لا أفكّر في أي شيء سواها. أركّز فقط عليها، وعلى ما أريد أنْ أرويه. حتى اختيار الممثّلين يأتي لاحقاً.