جيجي وأرنب علي

27 فبراير 2018
(مقطع من عمل لـ إبراهيم جوابرة/ فلسطين)
+ الخط -
بقيت القصة القصيرة الفن الأقل احتفاء به في الكتابة العربية المعاصرة، الكأس المعلّى كان دوماً للشعر ومؤخراً كأنما أصبح للرواية بقوة مال الجوائز. هنا قصة لأمير حمد (القدس، 1992) تقدّم لمحة عن آخر جيل من كتّاب القصة الفلسطينية. 


كانت زيارة خالته وابنتها جيجي البالغة من العمر عشرين ربيعًا فرصته الذهبيّة، عليه أن يستغل وجودهما، أن يستغل الجو المريح الذي يخلقه حضورهما، وأن يخرج بخطّةٍ محكمةٍ تلعبان الدور الرئيسيّ فيها. فخالته التي قضت أكثر من عشرين عامًا في أميركا، بعد أن تزوجها شابٌ هولنديٌّ مناصرٌ للقضيّة الفلسطينيّة أسلم في القدس، أصبحت تُشبه الأجانب، صارت لطيفةً مثلهم، تحتفل بأعياد ميلاد أطفال العائلة جالبةً الهدايا الثمينة، وتحضنهم بدلًا عن القبلات حين يأتون للزيارة. لكن الشيء الأهمّ بالنسبة له، كان شغفها بالحيوانات وسماحها لأولادها بتربيتهم، فمرةً -كما أخبرته- سمحت لابنها بأن يربّي سحلية إيجوانا رغم خوفها من ذيلها، كما أنّها تمتلك حاليًّا كلبًا ضخمًا اسمه بوتشي، تتحدث عنه دائمًا بالخير، وحين يكلمها زوجها عبر تطبيق "سكايب"، تطلب منه أن يقرّب الكاميرا من وجه بوتشي، فتقبله عدّة قبلاتٍ على زجاج التابلت، كما لو كان زوجها.

كانت الفتاة الشقراء مطمع كلّ نساء العائلة، فكلّ واحدةٍ تحلم بخطفها زوجةً لابنها، وبأن تترك الولايات المتحدة وتأتي لتعيش في شقّةٍ في عمارةٍ من عشرين طابقاً تسورها العمارات في بلدة كفر عقب المطلّة على الحاجز. فالفتاة بيضاء البشرة ملوّنة العينين، لها طولٌ وجسمٌ مثل عارضات أزياء "فيكتوريا سيكرت"، تحمل الجنسيّة الأميركيّة والهولنديّة، وتعمل الآن على رسالة ماجستير في القانون الدوليّ بعد أن أنهت البكالوريوس في سنتين فقط. كما أنّ هواها وأخلاقها ينتميان إلى شرقنا المشمس، فهي تكره الميوعة الأميركيّة، لا تجد رجولةً في شباب الغرب، وتحب الزيت والزعتر. لذلك ستحرص العائلة على رضاها، وسيخجل الجميع من الهدايا "الأصليّة" التي أُمطروا بها، ومن إنكليزيّتهم الرّكيكة حين يحاولون تبرير رفضهم لأمرٍ من الأمور.

لم يرَ علي البالغ من العمر أحد عشر عامًا في ابنة خالته جيجي سوى دهشتها، وانقضاضها الحميميّ على كلِّ حيوانٍ تشاهده في الشّارع، ككلب الجيران الأجرب، والقطة العوراء قرب الحاويّة، والحمار المسكين الذي يركبه كلّ أولاد الحي. كانت الخطّة تنضج في لاوعيه ببطءٍ، مستفيدةً من البيانات الحيوانيّة التي يلتقطها ذهنه الشبيه برادارات الأساطيل الأميركيّة، والذي أصبح يعمل على غير عادته بطاقة تشغيله القصوى.

كان علي أكثر أطفال العائلة قربًا من جدّه وجدّته، يعاونهما دائمًا ويقضي أوقات فراغه عندهما. تمدحه جدّته كثيرًا رغم توبيخها له هي وأمّه لأنّ كلّ أحاديثه عن الحيوانات، كأنّه قاموس حيواناتٍ متنقلٍ كما يصفه أخوه الأكبر المنطويّ على نفسه. وأحيانًا كثيرةً تشعران بأنّه يخترع كلماته الخاصّة لوصفها، كقبيلةٍ تعيش على صيد السمك فتمتلك العديد من المفردات لسمكةٍ واحدةٍ.

نشأت بعد ذلك صداقةٌ بين جيجي وابن خالتها، لطيبة علي، ولوجهه الذي نمت فيه تفاحتان تسبّحان الخالق تهوى جيجي قرصهما. لذلك فتح كلّ واحدٍ منهما قلبه للآخر، دون أن يفصلهما جدارٌ لغويٌّ، إذ علّمت خالته أبناءها العربيّة وهم صغار، حين كانت تصحبهم معها في زياراتها لفلسطين مقيمةً في بيت والديها القديم، كما أنّها تحاول أن تتكلم معهم العربيّة في المنزل باستمرارٍ. وحين تُعيق كلمةٌ ما التواصل، كان علي يلجأُ إلى قاموسه الداخليّ الذي أنتجته حصة اللغة الإنكليزيّة.

أخبرته جيجي عن طفولتها في مزرعتهم في فلوريدا، كيف كانت تركب حصانها الأسود الذي أسمته "برق" بالعربيّة، وتفوز به في مسابقات الخيول. حدّثته عن إطعام الطيور وجمع بيض الدجاج وحتى حلب الأبقار. كان علي يصغي بلذّة شهريار لشهرزاده، لكنّه لم يكتفِ بالإصغاء فأخبرها عن طفولته في قريّة سنجل في الريف الفلسطينيّ، حين كان يلعب مع الماعز ويركب الحمار ويسرح في الجبال بحثًا عن القنافذ. حكى لها قصص هروبه من الروضة وذهابه إلى مزرعة الخراف التي يمتلكها صديق والده، وكيف تمكّن من أن يلفّ الخراف لفّتين بعد أن راهنه صديق والده على ذلك.

قضت الأُمّ وابنتها أُسبوعهما الأوّل محبوستين في البيت، فقد كان الجوّ مشتعلًا بالمواجهات مع قوّات الاحتلال. وبما أنّ الحواجز التي تشتعل عليها المواجهات تشرخ كلّ مدينةٍ عن أُختها وحتّى عن نفسها أكثر الأحيان، فلم يكن أمامهما سوى مدينة رام الله للزيارة، التي لم تحبّها جيجي لامتلائها بمحلّات الماركات الغربيّة التي تبيع أردأ القطع بأسعارٍ تنافس محلّات "بافرلي هيلز". لذلك فضلتا البقاء في البيت، واستقبال الوفود التي جاءت كي تلتهم جيجي بعيونها، كما تلتهم ضفتا المنصّة أجساد عارضات الأزياء المتمايلة كزورقٍ في سيل أسابيع الموضة.

حينها استغل علي الفرصة. اكتملت الخطّة داخله، فتوجّه نحو خالته الجالسة قرب أُمّه وأُمّها عارضًا عليهن أن يصحب جيجي وأُخته الصغيرة مريم إلى المتنزّه في رام الله، فالمتنزّه عائليٌّ لا يؤمّه الشّباب، وهو محاطٌ بأشجار تفلتر الهواء فتستطيع جيجي المسكينة أن تتنفس قليلًا هواء وطنها الذي لم تتخيله بأسوأ كوابيسها شقّةً تكرهها الشمس في منطقةٍ مكتظّةٍ كهذه، منطقةٍ يهرب إليها الجيل الجديد من أبناء القدس لاحتفاظهم فيها بهويّاتهم الزرقاء، من أسعار العقارات الخياليّة في القدس وضواحيها، ومن قيود بلديّة "أورشليم القدس" على البناء والترميم.

وجدت الأمّهات اقتراح علي معقولًا جدًا، فجيجي التي اعتادت الانطلاق راكبةً اسم حصانها من ولايّةٍ إلى أُخرى، مساحة كلٍّ منها أضعاف مساحة فلسطين التاريخيّة وأضعاف أضعاف مساحة فلسطين الأُوسلويّة، وأضعاف أضعاف أضعاف مساحة فلسطين الليكوديّة، في فترةٍ زمنيّةٍ أقلّ من الانتقال من شارع كفر عقب إلى حاجز قلنديا، أصبحت تشبه كناري الجيران الأصفر الذي لصخب ضجيج السير الذي يطلّ عليه من قفصه اعتزل الغناء، واكتفى بالتحديق الأبكم في بانوراما الخرسانة أمامه، حيث سيصور قريبًا المخرج الأميركيّ "مارك ويب" الجزء الجديد من فيلم "الرجل العنكبوت المذهل" لكثرة الأبراج السكنيّة، وسهولة قفز الدوبلير من سطح عمارةٍ إلى أُخرى.

وفرحت أُمّ جيجي بالفكرة لأسبابٍ أهم، لأنّ جيجي التي تقضي الوقت أمام شاشات الأخبار تشاهد أبناء شعبها يُنكّل بهم من قبل جنودٍ مدججين في سياراتٍ مصفحةٍ أو على أحصنةٍ أميركيّةٍ، اقتربت -بسبب التلفاز- من الإصابة بمرض فقدان الشهيّة (أنروكسيا)، الذي تُصاب به عارضات الأزياء عادةً حين يخفن على عقودهنِّ مع الشركات العابرة للقارات. فلا شكّ أن الكنافة ستعيد لورود خدّيها بعض اللون، لذلك أوصت علي -بعد أن وافقت جيجي على الذهاب وناولته الجدّة خمسين شيكلًا- أن يُحاول إطعامها شيئًا آخر أكثر دسمًا كالشاورما.

في الشّارع، قرب جيجي ومريم، عدّ علي بفرحٍ الأموال التي في يده. لم يخطئ العدّ بالطبع، لأنّه يحمل ورقةً واحدةً يحيا بها الشّاعر الصهيونيّ "شاؤول تشرنبحوبسكي"، بعد أن حملت الورقة السابقة من نفس الفئة صورة حائز نوبل الأُوكرانيّ "يوسف عجنون". وبلحظةٍ تحوّل ذهنه إلى آلةٍ حاسبةٍ علميّةٍ لو استعملها في امتحان الرياضيات لضمن العلامة الكاملة. أخذ يحسب بصمتٍ وبسرعةٍ هائلةٍ:

"(3.5+ 3.5 + 3.5) مواصلات – (0.5 خصم لأنّا 3 أشخاص) + (4.0 + 4.0 + 4.0) نص وقيّة كنافة لكل واحد + (1.0 + 1.0 + 1.0) كاسة تمر هندي لكل واحد = 25.00 شيكل. بضل معي من الخمسين 25 شيكل بقدر أشتري فيهم أرنب ب 15 شيكل وقفص ب 10 شواكل".

بعد أن اطمأنّ علي أنّ الأرنب الذي قفز لأشهرٍ في أحلام نومه ويقظته، والذي استغلّ خالته وابنتها لأجله، لا يزال محشورًا بقفصه في واجهة محلّ الحيوانات، نظر إلى جيجي قائلًا:
- الطقس حلو كتير، شو رأيك نمشي للمنتزه بدل ما ننحشر بفورد هلأ؟ بس 10 دقايق ربع ساعة مشي
وقبل أن تجيب جيجي، سأل مريم:
- شو رأيك مريم؟
فوافقت أخاها فورًا. استحت جيجي من الرفض خشية أن تبدو كسولةً ومرفّهةً أمام الطفلين النشيطين. وأضاف حينها علي، مدركًا أنّ الإنسان لا يقوى على المشي بعد اللعب:
- بس نرجع منرجع بفورد

في شوارع كفر عقب العتيقة، المليئة بالمطبّات والحفر الشّبيهة بوجه القمر الآخر الذي قصفته النّيازك، كانت جيجي الممشوقة كرمحٍ، بشعرها الأشقر المموج الذي يلامس خاصرتها، سببًا إضافيًّا للأزمة الخانقة التي تتحرك فيها السّيارات مترًا كلّ ساعتين. كانت ترتدي صندلًا مكشوفًا ماركة "تومي هيلفيجر"، تنعس فيه قدمان بأظافر مبرودةٍ ومطليّةٍ باللون البنفسجيّ الفاتح، مما صعّب عليها المشي في غياب الحدود بين الرّصيف والشّارع، إذ تضجر أحيانًا الحفر المليئة بالمياه العادمة من سقوط المركبات بها فتغير مكانها إلى الرصيف، فأن يسقط عليك إنسانٌ أفضل بالنّهاية من شاحنةٍ عملاقةٍ.

كانت المركبات الخاصّة والعامّة تترك الشارع وتتجاوز الطابور الصنميّ مسرعةً على رصيف المشاة، يشّجعها الاختناق المروريّ، ومراقبة جيجي من مسافةٍ يتغبّر فيها شعرها من ملامسة غطاء المحرّك الأبيض بسبب المشي في طريق الكسّارات. كانت كلّ الرؤوس -حتى رأس السائق- تخرج من النوافذ اليمنى للمركبة وتحدّق بالجسد الشاب، صامتةً أو مصفّرةً أو عارضةً توصيلةً "للعسل". لكنّ علي كان يقف لهم بالمرصاد، زائرًا بوجههم وشاتمًا إيّاهم شتيمةً من العيار الثقيل، بعد أن يُغلق بأصابعه أُذني مريم، فتضحك جيجي التي لم تتعلم الشتائم بالعربيّة بعد، بعد أن تُحسّ بلاوعيها قوّةَ الشّتيمة.

بعد نصف ساعة مشيٍّ، وبعد أن انتهى فصل كفر عقب، وتحت مدخل مدينة البيرة المحفور عليه "البيرة تستودعكم القدس"، سألت جيجي بعربيّتها العرجاء علي عن المدّة المتبقيّة للوصول، فأجابها:
- عشر دقايق بس
فأكّدت مريم:
- بس عشرة
فأخبرته جيجي أنّه قال لها "عشر دقايق" قبل نصف ساعةٍ، فردّ علي:
- لأنّك بتمشي زي الحلزونة، لو إنّك بتمشي بسرعة زينا أنا ومريم كان مبارح وصلنا
فقالت مريم ناهرةً:
- ما تمشي زي الحلزونة

كانت شوارع البيرة معبّدة، بلا نزاعاتٍ حدوديّةٍ بين الرصيف والشّارع، فشعرت جيجي ببعض العزاء. لم تفهم ما هي "الحلزونة"، لكنّها أدركت أنّها شيءٌ لا ينبغي لأحدٍ تقليده، فاكتفت بالمشي صامتةً. وبعد ربع ساعةٍ، تخللتها معاكساتٌ خفيفةٌ كان علي لها بالمرصاد، جلست جيجي لتريح قدميها المتعبتين على طرف حوض ورود، فتأفّف علي قائلًا لها:
- بتعرفي انو الناس كل يوم جمعة بمشو الصبح من رام الله للخليل بس بنص ساعة؟
فقالت مريم:
- آه، أقل من نص ساعة
ثمّ أشار إلى الأُفق بإصبعه، قائلًا لجيجي:
- شايفة الشجر هناك؟ هداك المنتزه، يلّا بكفي دلع
فأضافت مريم دون أن تلتفت لجهة الإشارة:
- أنا شايفتو
نظرت جيجي فلم تشاهد شيئًا، لكنها أجابته أنّها ترى الأشجار التي يشير إليها، خشية أن يكون نظرها أيضًا كالحلزونة.

أخيرًا وبعد أن استغرقوا في المشيّ ما يزيد عن السّاعة، وصلوا المتنزّه. فور وصولهم، وبعد أن قرصهم الجوع لطول المسافة، تناول كلّ واحدٍ منهم نصف وقيّة كنافةٍ ساخنةٍ. كانت الكنافة لذيذةً فأثنت عليها جيجي، وتمنّى علي أن يطلب نصفًا آخر، لكنّه لم يُرد إفساد حساباته، فالتهم البقايا التي تركتها مريم في صحنها.

أشرقت جيجي بعد الكنافة كياسمينةٍ تحت المطر. خلعت صندلها الذي اسودّت حوافه وأصابعها التي فيه وركضت على الرمل. أشبه بطفلة تُطيّر طائرةً ورقيّةً على شاطئ البحر. أحبّها الصغار فشاركوها اللعب، فوجهها الطفوليّ المرسوم بريشة ابتسامتها، وعيناها اللتان تلمع خيول طفولتها بهما، فتحوا أبواب الأطفال الموصدة لها. كانوا يركضون ويقفزون ويتمرجحون معًا. كانت جيجي تشبه حصانًا أبيض يجرّ خلفه عربةً مكدّسةً بالأطفال. حتى أنّ الأرنب قفز من رأس علي في فرحة اللعب وأخذ يلهو وحده تحت الرمل.

بعد اللعب، سقاهم عليّ مشروب التمر الهنديّ. اسودّت شفاههم بالصبغات السّوداء، فأخبر علي جيجي أنّ هذا السّواد دليلٌ على أنّ المشروب طبيعيٌّ مئة بالمئة. خرجوا من المتنزّه، فعاد الأرنب إلى رأس علي. اشتمّت جيجي رائحةً زكيّةً، تتبعت الرائحة فشاهدت في المحل المقابل لها سيخ شاورما ضخمًا يطوف كالنشوان حول نفسه. فسال لعاب المسكينة بعد أيامٍ من شبه الإضراب عن الطعام، فطلبت أن يأكلوا شاورما بالطّحينة التي طالما أحبّتها في طفولتها.
نظر علي إليها نظرته إلى شخصٍ يمدح الاحتلال ويلعن العرب، قائلًا لها:
- أُوعي... هادا المحل مشهور إنو لحمتو لحمة حمير، بخلي أبوي يجيبلك هوي من اللحام شاورما ومنسويها بالبيت، صاحب أبوي شافو بعيونو وهوي بدبح الحمير، صح مريم؟
- صحيح، بتكزز لحمة الحمير
أوقف علي مركبة فوردٍ صفراء عموميّة. كانت المركبة خاليةً، وحين ركب علي بجانب السائق سمعه يقول له:
- ولك كيفك يا علي؟

كان السائق ابن عمّ والده من سنجل. فلم يأخذ أُجرةً منهم، كما أنّه لم يُقلّ معهم أيّ ركابٍ آخرين كي ترتاح ضيفتهم، فابنة خالة ابن ابن عمّه بمثابة أُخته. تمنى علي وقتها وهو يتذكر تذمّر جيجي والكنافة اللذيذة، لو أنّه شاهد ابن عمّ والده في طريق الذهاب. لكنّه نسي أحزانه حين أخبره السائق -الذي يصطاد في أوقات فراغه- كيف اصطاد حيوان النّيص الأُسبوع الماضي.


***


أمسك علي الأرنب الصغير بيدٍ واحدةٍ ضاغطًا براحته على ظهره، ومثبّتًا إيّاه بأربعة أصابع تدغدغ بطنه، ليخبئه بعد ذلك خلف ظهره. كان الأرنب يركض عبثًا بالهواء ظانًّا العشب تحته رقيقًا وشفافًا. مشى علي إلى حيث تجلس أمّه وجدته وخالته وابنتها، ثمّ كمن يُظهر خاتم زواجٍ مفاجئًا خطيبته وهو يبتسم ابتسامةً عريضةً، أظهر الأرنب أمام خالته، موجهًا لها الحديث:
- شوفي ما أحلاه خالتي! اشتريتلو قفص كمان.

كان علي ينتظر ردّة فعلٍ مشجّعةٍ من خالته، كأن تبدأ بقول "أُووووه" ثمّ تتناول الأرنب من يده وتقبّله كما قبّلت "بوتشي" وتقول له جملًا مثل "ما أحلاه، بجنن... شو بدّك تسميه؟". لكنّ ردّة فعل أمّه وجدّته كانت أسرع وأقوى من أيّ ردّة فعلٍ إيجابيّةٍ من خالته تضغط بها على والدتها وأُختها، فصرختا به كما كانتا ستصرخان لو أنّه أمسك شهادة رسوبه بالثّانويّة العامة، لا أرنبًا أبيضَ ناعمًا "يفعفط" في الهواء:
- كيف بدّي ألحّق عليكم إنت وإخوتك؟ أنا بدي أنضف خراكم إنتو ولا خرا الأرنب؟ ناقصني أمراض وجراثيم وحيوانات جربانة؟
ثمّ نظرت إلى أُختها قائلةً لها:
- الله وكيلك جنني يا شيخة، فش إشي براسو غير الحيوانات، مفكرنا لسّا عايشين بسنجل، مفكر علبة السّردين الي ساكنينها مزرعة بكاليفورنيا، مرّة بجبلي حمامة مع عشها وبيضها، ومرة بجبلي كلب أسود من الليل بخوّف الجن، ومرة بلاقيه مربّي تحت التخت صرصور وقال عاملو بيت بعلبة الكنادر، هدول حيوانات أرواح حرام، بدهم مكان يتنفسوا فيه، مش شقة بتّعتر(يتعثر) أهلها فيها ببعض.

بعد ذلك استلمت أُمّها دفّة سفينة الصّراخ، فأضافت كازًا على النار:
- مرة بالليل كنّا أنا وأبوكي نايمين بأمان الله، إلّا منسمع صوت ببكي من البلكونة، ارتعب قلبنا رحنا نشوف شو في... ولا هيي بسّة صغيرة بتموي، وعندها حليب ومرتديلا، أول واحد شكينا فيه كان علي، وبعد تاني كف من أبوكي اعترف انو هوي إلي جابها بعد ما اندعست إمها...

كان علي ينظر إلى خالته منتظرًا تدخلها، فقد كانت كلّ خطته مبنيّةً على ردّةِ فعلها في لحظةٍ كهذه، لكنّ دهشة الخالة من عنف الردّ عليه عقدت لسانها، فاكتفت بمحاولة تهدئة الأُمور قائلةً لهما:
- ما صار شي ولد صغير هادا it’s ok… it’s ok يا جماعة...

أدرك علي حينها -وبينما كان الأرنب المسكين يركض بأرجلِ حصانٍ تحت يده من الذعر- أنّ خالته أصبحت تشبه الأجانب أكثر مما ينبغي، فارتأت عدم التدخل في شؤون غيرها. فوجّه عيون القطّة في وجهه كمنظارٍ نحو جيجي، لعلّ صداقتهما تسعفه، فاكتفت بالصمت وهي تفرك تورّم أصابعها، لتعبها من مشوارها الطّويل بين الحفر والمطبّات، وغضبها عليه إذ بدأت تُدرك وقتها أنّها وقعت في مصيدته كأرنبٍ أشقر صغير.

كان البائع "الأزعر" في محل الحيوانات يصرخ على طفلينِ جاءا ليُعيدا كنارًا يزقزق، مستغلًّا حالة غياب القانون في بلدة كفر العقب، الذي لا تدخله السّلطة إلا للقبض على تجار المخدرات، ولا تجتاحه "إسرائيل" إلّا للبحث عن أسلحة. فسمعه علي فور وصوله يقول لهما:
- مش راح أرجّع لو أجا نتنياهو بذات نفسو...
ثمّ قال لهما مشيرًا إلى لافتةٍ مكتوب عليها "الحيوانات لا تُستبدل ولا تُعاد":
- عندي قاعدة وحده بالحياة... قاعدة وحده!

انتبه البائع إلى علي فسأله ماذا يُريد، فأجابه بغضبٍ "رجعلي هدول". كانت النّار المشتعلة في عيون علي تتغذى على أشرطة الفيديو التي تدور الآن في ذاكرته، عارضةً خططه العديدة التي فشلت في إقناع أهله بتربية أيّ حيوانٍ أليفٍ مهما كان نوعه أو حجمه. حينها جَفُل الشّاب من النّار التي انعكس وهجها على كلّ جسد علي حتى بدا أنّ وجهه يحوي عوض التّفاحتين، حقل تفاحٍ كالذي أسقط والدينا من الجنّة. فأعاد له ثلاثين شيكلًا من الخوف، بدل الخمسة والعشرين.


***


بعد أن رفضت جيجي كل شباب العائلة، لأنها تمتلك أحلامًا أكبر قليلًا من الجلوس في البيت وإنجاب الأطفال كالأرانب، استغلّت نساء العائلة قصّة علي مع جيجي كي تفضحها، فقصصن على مسامع الجميع كيف أن طفلًا صغيرًا ضحك لوحده على خريجة "ستانفورد". حتى أنّ القصّة بعد أن قفزت من لسانٍ إلى آخر وصلت أخيرًا إلى مسامع الـCIA ، التي فتحت ملفًا لعلي، سجّلت فيه أنّ مراهقًا فلسطينيًّا ممن يضربون الجنود بالحجارة، خدع محاميّةً أميركيّة، وأقنعها بأن تتبرع بأرنبٍ (مليون دولارٍ حسب المصطلحات الفلسطينيّة) إلى جهاتٍ غير معلومةٍ.

عادت بعد عامٍ خالة علي مع ابنتها الصغرى بيلّا، ذات العيون الملونة والقوام الشبيه بعارضات الأزياء، والتي اقتربت من التخرج في عامين فقط من الجامعة بتخصص "علوم سياسيّة". عاد الأمل من جديدٍ إلى نساء العائلة، فبيلا هذه تبدو أكثر وطنيّةً من أختها، إذ تجيد العربيّة أفضل منها، وترتدي على الدوام بلوزةً كُتب عليها "Free Palestine"، كما أنّها تضع أحيانًا كوفيّةً حول عنقها العاجيّ، ينسدل عليها شعرها الأسود العربيّ، لا "الأصفر الهولنديّ" كأختها.

جلس علي مع جدته وبيلّا حول طاولةٍ مكتظّةٍ بالصّحون، كانوا وحدهم، فقد ذهبت أمّه مع أمّ العارضتين إلى الحسبة في رام الله. كانت بيلا حافيّةً ببنطالٍ رياضيّ أسود، رابطةً شعرها على شكل "كعكةٍ"، ومتربعةً على الكنبة تتعلم من جدتها حفر الكوسا. وحين قامت جدّتها لتقضي حاجتها، استغل علي غيابها، وطمأن نفسه بأنّها لن تعترض -بعد أن توافق ابنة خالته- بسبب تفاقم نسيان الأمور لديها.

كان قد أعدّ خطةً جديدةً بعد أن راجع سنةً كاملةً ثغرات خطّته القديمة، فاقترب من بيلّا، وأهداها قلادةً تحمل جنيهًا فلسطينيًا قديمًا بثقبٍ في وسطه، وحينما همّ بنطق جملته المكونة من كلماتٍ كشاورما ووادٍ وضجر ومريم، فاجأته بيلّا بالحديث قبله -وهي ترتدي العملة التي تحمل اسم فلسطين بثلاث لغاتٍ- قائلةً له:
ما تحاول "حبيبي ألّي" (قالتها بلهجة أميركية) ما راح تضحك عليّ زي ما ضحكت على جيجي!

المساهمون