تخيلوا أن أزمة بحجم أزمة الدولار التي تكاد تعصف بالاقتصاد المصري، وتسبب قلقاً شديداً، ليس بين مجتمع المستثمرين ورجال الأعمال، ولكن بين المواطنين العاديين، ومع ذلك تقف الحكومة متفرجة صامتة لا تخرج على الرأي العام بكلمة واحدة أو حتى ببيان مقتضب يؤكد أو ينفي حقيقة الأنباء المتداولة من بنوك استثمار معروفة عن قرب تعويم الجنيه بشكل كامل، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد، وكأننا نتحدث عن أزمة في جزيرة نائية بجزر المحيط الهادي، وليس داخل دولة بحجم مصر.
المؤكد أن مصر باتت على بعد خطوات من قرار تعويم عملتها، أو إجراء خفض حاد في قيمتها، تنفيذاً لتعليمات صندوق النقد الدولي الذي يشترط إتمام هذه الخطوة مقابل منح البلاد قرضاً بقيمة 12 مليار دولار والافراج عن الشريحة الأولى البالغ قيمتها نحو 2.5 مليار دولار
ومع قرب اتخاذ هذه الخطوة نحن أمام 3 سيناريوهات متوقعة كلها مرّة للمواطن والاقتصاد والمستثمر.
السيناريو الأول هو خفض قيمة الجنيه بنسبة كبيرة أمام الدولار، على أن يتم ذلك بشكل تدريجي وعلى مدى شهور، وقد يبلغ الخفض نحو 30%، وهنا سيتراوح سعر الدولار داخل البنوك ما بين 11.5 و12.5 جنيهاً بدلاً من 8.88 جنيهات حالياً.
وهنا ستظل أزمة سوق الصرف قائمة، وستظل السوق السوداء مستمرة أو على الأقل ستطل برأسها من حين لآخر أو مع أول طلب ضخم على النقد الأجنبي من أحد كبار المستوردين، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت، والدليل على ذلك ما حدث في مارس الماضي، فرغم خفض قيمة الجنية 14.5% إلا أن السوق السوداء ازدادت ضراوة وقوة.
السيناريو الثاني، هو خفض قيمة الجنيه بنحو 40% دفعة واحدة وبشكل صادم للسوق والمضاربين، بحيث يتساوى سعر الدولار في السوقين الرسمي والسوداء، وهنا نتحدث عن سعر للدولار يتراوح ما بين 12.5 إلى 13 جنيهاً، على أن يتم بعد ذلك الإبقاء على هذا السعر، أو سحب سعر الدولار للادني، وهنا نكرر تجربة سابقة حينما تجاوز سعر الدولار 725 قرشا في حكومة عاطف عبيد ليرتد بعد سنوات إلى 560 قرشا مع تحسن وضع مصر المالي وإعادة البنك المركزي الانضباط لسوق الصرف.
السيناريو الثالث، والأخطر على الإطلاق هو التعويم المطلق للجنيه وترك سعره للعرض والطلب، وهنا تكمن الكارثة، لأن أسعار السلع ستتفاقم بشكل قد يفوق كثيرا قدرة المواطن، خاصة وأن مصر تستورد نحو 70% من احتياجاتها، خاصة المتعلقة بالأغذية.
وسأضرب مثالاً على ذلك بفاتورة الواردات، فإذا افترضنا أن قيمة الواردات السنوية تبلغ نحو 60 مليار دولار، هنا سيتحمل الاقتصاد فاتورة قيمتها 532.8 مليار جنيه على أساس 8.88 جنيها للدولار، وفي حال زيادة سعر الدولار إلى 12.6 جنيها، هنا ستقفز الفاتورة إلى 756 مليار جنيه، أي أن زيادة الدولار 3.72 جنيهاً سيكلف الاقتصاد أعباء إضافية قيمتها 223.2 مليار جنيه.
وفي ظل عجز الموازنة العامة المتفاقم عاماً بعد أخر، هنا ستحمل الحكومة المواطن تكاليف فاتورة الواردات من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات كالمياه والكهرباء وزيادة الضرائب والجمارك.
وعودة السيناريوهات الثلاثة الساقة فلكي تنجح لا بد للبنك المركزي من أن يتدخل بقوة في السوق ويضخ كميات ضخمة من الدولارات حتى يلبي حاجة المستثمرين والتجار والسوق المتعطش أصلاً، ويقضي على السوق السوداء التي تزعج الجميع، ويوقف المضاربة على الدولار التي تحولت لسلوك جماعي، وينهي المشكلة المزعجة للاقتصاد للأبد.
والقضاء على السوق السوداء وإنهاء اضطرابات سوق الصرف في حاجة إلى سيولة دولارية ضخمة لدى البنك المركزي، حيث أن الأموال التي سيضخها في السوق، لا بد من أن يسحبها من الاحتياطي الأجنبي، والاحتياطي لم يصل بعد إلى حاجز الـ 30 مليار دولار كما كان مخططاً له، حتى يمكن للبنك أن يضحي بخمسة مليارات دولار أو حتى ثلاثة مليارات مرة واحدة لتلبية حاجة السوق العطشى.
وهنا تكمن المشكلة، فتعويم الجنيه أو حتى خفضه بلا تدخل مباشر من البنك المركزي يمكن أن يزيد المشكلة تفاقماً خاصة مع استمرار ندرة الدولار بسبب الأوضاع الصعبة التي تمر بها قطاعات السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين والاستثمارات الأجنبية.