جوهرة العقد الفريد

16 مارس 2015
+ الخط -
ليس روائيًا أو اثنين، بل أكثر. ليس شاعرًا أو اثنين، بل أكثر. ليس كاتبًا أو اثنين، بل أكثر. جميعهم من ذاك البلد الصغير المكنّى أحيانًا في السياسة بـ "خاصرة" بلدٍ لصقه وأكبر منه ؛ إنه لبنان "الأخضر" في الأغاني وفي الماضي. لكن أخضره في الماضي لا يجيء من أرزه الشهير فحسب، بل من بيروت وستيناتها الذهبية التي أعطت بريقًا ثقافيًا شعّ خارج حدوده ذات التعرجات اللا نهائية. كان البريق الثقافي ممكنًا، إذ إن أرضيّته الصلبة ليست إلا التعليم الجيد. ومع أن البلد الصغير لم يُعرف يومًا بـ "مشاريعه القومية" كما جارُه الكبير ذو "الخاصرة الناقصة"، إلا أن الجامعات فيه، وتحديدًا جامعته الوطنية، أي الجامعة اللبنانية، أدّت دورًا مؤسّسًا، بات مع الأيام أدنى إلى عنصرٍ أساس من مكوّنات هويّة لبنان الثقافية. ولو أردنا تدقيق القول، والإفصاح عن مكانٍ بعينه خرّج هؤلاء المثقفين، لما خطر في البال إلا كلية التربية في بيروت، كمثال عمّا يمكن لكلية تابعة للعلوم الإنسانية أن تفعل.
القصد كلّه هو العلوم الإنسانية في الجامعة، تلك العلوم التي كانت في زمنٍ مضى لا تشكو من هذه النظرة الدونيّة التي يرمقها بها الناس اليوم. يرمقها الناس بهذه النظرة ليس في لبنان فحسب، بل في العالم العربي وأيضًا في أماكن أخرى كثيرة في العالم.
إذ إن "السلطات" فرّغت كليّات العلوم الإنسانية من معناها ومغزاها، ووسمتها بصفاتٍ تُنفّر الطالب منها، وذهبت أبعد حين عزلتها عن "سوق العمل"، ليغدو المتخرّجون من كليّات مماثلة صورة "واقعية" عن تصنيع البطالة قصدًا.
لا تشكو العلوم الأخرى، المكنّاة بالعلوم الجادةّ كالطبّ والهندسة والاقتصاد وغيرها، من هذا العزل عن سوق العمل، ولا تتصدّر تلك المؤتمرات التي تبحث في العلاقة بين التعليم وسوق العمل، بل على العكس تمامًا، تُكرّس لها "معارض مهن"، وتدعى إليها الشركات والمؤسسات الباحثة عن موظفين. بينما تتصدر العلوم الإنسانية المؤتمرات التي تنظر في انحدار التعليم العالي ومشكلاته، هكذا تبدو المقارنة الخاصّة بسوق العمل بين النوعين، إن جاز التعبير، مضلّلة ومغرضة من حيث هي تحابي نوعًا على آخر.
صحيحٌ أن هذا المآل المؤسف للعلوم الإنسانية حصيلة عوامل كثيرة ومعقدّة، ربما منها "هزيمة اليسار" الشهيرة، إلا أن القصدية في الوصول إليه، تشير إلى "السلطة" التي تمقت كثيرًا المثقّفين، وتتفنّن في التنكيل بهم تارة، وتدجينهم تارةً أخرى. وهي تعرف تمامًا أن في كليّات العلوم الإنسانية لا غيرها، تتكوّن الآراء وتنبثق الأفكار، وهذا بالضبط ما لا تريده.
من هنا كان لا بدّ من إفراد ملحق الثقافة حيزًا مهمًّا للمؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وسيقام بعد غد الخميس (19 آذار/ مارس) في مراكش.
والظنّ أن القصدية كانت حاضرة عند اختيار الجملة الآتية: المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، حيث مفردة الاجتماعية في رتبة الصدارة نسبةً إلى العلوم. هكذا يُفرد علم الاجتماع، لتمييزه عن عمد، إذ هو منبع المفكّرين المهتمّين بالشأن العامّ، هكذا يحمل هذا التمييز في طيّاته رسالة واضحة: محاباة العلوم التي تنبذها "السلطة".
ولنقترب أكثر من تلك الآلية التي تفتح ذهن الطالب، وتدفعه إلى التفكير وإبداء الرأي إبّان عملية التعليم، جاء الحوار مع أستاذة الأدب الإنكليزي والناقدة والمثقّفة المصرية شيرين أبو النجا.
فمن خلال اجتماع هذه الصفات الثلاث معًا لديها، نعرف تمامًا معنى "العلوم الإنسانية" ومغزاها. خاصّة أن أبو النجا أصدرت كتابًا بعنوان: "المثقف الانتقالي: من الاستبداد إلى التمرّد". كتاب يفتح بابًا لسؤالين يتناسلان من تلقائهما: "من المثقّف"؟ و"ما دور المثقّف". سؤالان سيكونان أيضًا حاضرين علميًا في المؤتمر السنوي الرابع.
الكلام عن المؤتمر يحيل إلى البحث العلمي، أي إلى أحد أرقى أشكال التفكير وإنتاج المعرفة. ومهما قيل عن عزلته الأكاديمية، إلا أنه بمرتبة الجوهرة من العقد الفريد، لو سمح المجاز. فهو الذي ينمو على مهلٍ، وبالدأب والصبر والإصرار في المراكز البحثية والجامعات. وإذ تخيّل المرء الباحثين، فلا بدّ أن تحضر المكتبة في البال، فيتصوّر أن الباحث وأفكاره منعزلين تمامًا عن المجتمع والناس. بيد أن الواقع مخالفٌ لذلك. فالأفكار التي تولد في البحث العلمي، وتنمو في مراكزه، وتعيش في الإصدارات العلمية الرفيعة، تعرف بدقّة كيف تجد طريقها، ولو كان طويلًا وكثير التعرّج، إلى الناس، من خلال أولئك القرّاء الجديين، الذين أتاحت لهم كليّات العلوم الإنسانية، أن يتأمّلوا ويفكّروا ويشتبكوا مع الشأن العام، فتحولوا بلمسة سحرية، نابعة من إشعاع معنى تلك الكليّات ومغزاها، إلى كتّاب ومفكرين ومثقفين.
المساهمون