خلال عمره الذي امتدّ إلى 94 عاماً، مثّلت مرحلة المدّ التحرّري وتصفية الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية منعرجاً حاسماً في بلورة مواقف وكتابات الصحافي والمؤرّخ الفرنسي جون لاكوتور (1921- 2015).
بدأت تلك المرحلة من حياة الكاتب اليساري بلقائه مع الزعيم الفيتنامي هوشي منه، والذي جعله يحسم موقفه من الاستعمار بشكل نهائي، ويتحمّس لفكرة استقلال المستعمرات في العالم العربي وأفريقيا وآسيا.
سيبرز اسم لاكوتور، سنة 1956، إلى جانب أسماء عدد من المثقّفين الفرنسيين المعادين للكولونيالية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أمثال جون بول سارتر وجاك بيرك وبول بالطا وأندري مالرو، حين أصدر بياناً يُدين العدوان الثلاثي على مصر، ويطالب بإنهاء حرب الجزائر وانسحاب فرنسا منها.
ناضل لاكوتور من أجل استقلال الجزائر. وخلال مرحلة حرب التحرير (1954- 1962)، نشر سلسلة من المقالات في صحيفة "لوموند" الفرنسية، نقل فيها يوميّات الحرب، مسجّلاً إعجابه بالجنرال شارل ديغول، الذي يقول إنه "كان مصمّماً على تحرير فرنسا من الجزائر، أكثر مما هو مصمّم على تحرير الجزائر من فرنسا".
لكن المفارقة هي أن لاكوتور، الذي سيُتوّج بجائزة "الأكاديمية الفرنسية" في التاريخ في عام 2003، اتّخذ موقفًا متردّداً من الاستقلال، ومعارضاً لديغول بعد توقيع اتّفاق السلام بين الطرفين. لم يرفض لاكوتور فكرة استقلال الجزائر من حيث المبدأ طبعاً، لكنه رفض الطريقة التي تمّ بها الانسحاب الفرنسي، واصفاً إياها بالمتسرّعة.
اعتقد لاكوتور أن الاستعجال في تصفية الميراث الاستعماري تسبّب بالكثير من الضرر للأوروبيين المولودين في الجزائر، والذين يُعرفون بـ"الأقدام السوداء"، وأيضًا للجزائريّين الموالين لفرنسا والذين خدموها طيلة تواجدها في بلادهم، والمعروفين بـ"الحرْكى"، مبرّراً موقفه ذلك بالقول "إذا كان من مبرّر للتشكيك بالقرار السياسي والاستراتيجي المريع والضروري الذي وُضع موضع التنفيذ سنة 1962، فإنّنا سنجد هذا المبرّر في المأساة التي عاشها هؤلاء".
بعد سنة 1962، نادى لاكوتور بالشراكة بين البلدين، وبقي متابعاً للشأن الجزائري الذي كان حاضراً في مؤلّفاته التي وصل عددها إلى واحد وسبعين كتاباً، منها كتاب "الجزائر جزائرية.. نهاية إمبراطورية وولادة أمّة" (غاليمار 2008)، والذي تناول فيه بالتفصيل فترة الاستعمار الفرنسي.
عام 1978 كتب مقالاً في صحيفة "لوموند" عن الرئيس الجزائري الراحل، هواري بومدين، وصفه فيه بأنه "شخصية لاذعة وغير نمطية للتمرد والثورة والرفض"، مضيفاً أنه "حين استقبل نظيره الفرنسي فاليري جيسكار ديستان في نيسان/ أبريل 1975، لم يكن بومدين يبدو كريفي خشن من وراء البحار، بل كجار فخور... وأوّل قائد مقاومة يوقّع على نصوص اتفاقيات الاستقلال باللغة العربية".