جوزيه ساراماغو.. زيارة مجروحة

18 يونيو 2014
ساراماغو وبيلار...
+ الخط -

تحلّ اليوم الذكرى الرابعة لرحيل "ضمير الأرض"، الروائي جوزيه ساراماغو.

أقول ضمير الأرض، لا ضمير القارّة العجوز فقط. ولست مبالغاً في إطلاق نعتٍ كهذا. فمن قرأ له مواقفه أو سمعها من فمه مباشرةً، سيعرف عمّن نتكلّم.

نعم. حامل نوبل ليس بحاجة إلى مناسبة كي يُكتب عنه، فهو باق ما بقيت رواياته الشاهقة وما بقيَ انحيازه الناصع إلى فقراء ومضطهدي الكوكب.

أزور لشبونة، وبعد أسبوع وعشرات الكيلومترات من المشي على القدم، أحسّ كما لو أنني زرتها من قبل. كما لو أنني عشت فيها. وهذا بفضل قراءته تحديداً، أكثر من أي كاتب برتغالي آخر.

المدينة تحت شواظّ صيفها الأفريقي، تبدو شاسعة وبهيّة، لكنها مكسورة وحزينة عندما تُدقّق النظر في ملامح أهلها.

أذهب لزيارة حفنة من رماده المنثور تحت شجرة زيتون أمام متحفه في "حيّ الفاما".

هناك، على نهر التيجو، أجول في المتحف، وطيفه، لمّا زار فلسطين، لا يزال يخايلني. هو الذي زارها، بمبادرة منه، استجاب لها زملاؤه في "البرلمان الدولي للكتّاب"، فكان شيخهم والأكثر شباباً وتألّقاً بينهم.

في تلك السنة، قبل اثني عشر عاماً، عندما رافقته على حاجز التفاح بمخيم خان يونس، أرجعني وأنا أسمع كلامه إلى زمن الأسود والأبيض.

كتبت حينها إنّ هذا الرجل يعيش خارج الحسابات والمصالح. إنه أول مثقف أوروبي بهذه القامة وهذه الصدقية في المبدأ. أعضاء الوفد الثمانية اضطّروا أثناء الزيارة وبعدها أن يداوروا ويساوموا، أن يمسكوا العصا من الوسط، أن.. وأن. حتى وصل بهم الحال، عندما رجعوا قافلين إلى ديارهم، إلى نبذه وتجاهله كلياً، عقاباً له على ولائه العالي للحقيقة أولاً، ولفلسطين تالياً.

ذهبت إلى المتحف، وفي الذاكرة ما فيها، لكنني، مرة أخرى، وجدت ما يغيظ ساراماغو شخصياً، قبل أن يغيظ أيّاً من محبّيه ومتابعيه.

فما زالت صورته مع عاموس عوز معلقة على جدار متحفه بين بورخس ورلفو وماركيث وغيرهم. ومن الذي علّقها؟ إنها زوجته المناضلة. فما هذا يا سيدتي؟ كنت اتصلت بك عن طريق ناقدة تعرفك، ونقلت إليكِ وجهة نظري، فالتزمتِ الصمتَ، وقلت إنكِ ستفكّرين في الموضوع.

وها نحن مرة أخرى، والحال كما كان، فماذا جرى؟ لستِ بالغريرة ولا بالساهية، فالصورة واختيارها هما أيضاً موقف.

موقف، يؤخذ هذه المرة، على الضدّ من قناعات زوجك وقناعاتك ربما.

إني واثق أنّ ساراماغو، لو كان عُرض عليه التصوّر الأوليّ للمتحف وهو حيّ، لما فكّر بالمذكور على الإطلاق. كيف لا، وعوز هاجمه بضراوة حينما أدان جرائم كيانه في تلك الزيارة.

يعني هَزُلت حتى وصلت إلى عوز يا بيلار؟

أمر مؤسف، لكنه مقصود. أمر جرَح بهاء زيارتي هذه، وخلّاني أرى المدينة بعيون أضيق مما هي في الواقع.

ومع ذلك، ستظلّ مكانة الرجل بيننا، لا يطالها خدش هنا أو هناك. فالروائي الفذّ وضمير البشرية الصاحي، هو ببساطة جوزيه ساراماغو.

وهذا يكفيه ويكفينا.

المساهمون