طوت جورجيا، اليوم الإثنين، ومعها دول الاتحاد السوفييتي السابق، صفحة هامة من تاريخها، مع رحيل آخر وزير خارجية للاتحاد والرئيس السابق لجورجيا، إدوارد شيفرنادزه، عن 87 عاماً.
الموظف الشيوعي رفيع المستوى، تحوّل إلى أحد مفككي البناء الشيوعي قبل أن يصبح زعيماً لجورجيا المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وُلد شيفرنادزه في قرية ماماتي في منطقة لانتشخوتسكي الجورجية، ودرس حتى الصف الثامن هناك. وكان أبوه قد تعلم في مدينة باتومي ثم درّس اللغة والأدب الروسيين.
لم يخض إدوارد الحرب العالمية الثانية، إلا أنه فقد فيها أخاه أكاكي الذي قضى دفاعاً عن قلعة بريست، الموقع الذي دخل منه النازيون إلى بيلاروسيا. كان أهل إدوارد يحلمون بأن يصبح طبيباً، وذلك ما جعله يدرس الطب في معهد طبي في تبيليسي ويتخرج منه بدرجة امتياز. ولكن شيئاً آخر كان يجذب الشاب الطموح إدوارد، فسرعان ما ترك الطب حين تلقى عرضاً ليتفرغ لوظيفة سكرتير لمنظمة الشبيبة. ومنذ تلك اللحظة راح الشاب الجورجي النبيه والطموح والاجتماعي المفوّه يرتقي في السلم الوظيفي.
في العام 1951، أثناء قضائه إجازة، التقى إدوارد بزوجة المستقبل نانولي، فأحبها، وتزوجها رغم نصائح أصدقائه له بأنه "سيخرب سيرته وينهي مستقبله الوظيفي"، كما قالوا له، إذ إن والد العروس، العقيد راجدين تساغاريشفيلي، كان قد أُعدم في عهد ستالين كعدو للشعب.
في العام 1968، رُفّع إدوارد من وظيفة سكرتير إحدى منظمات الحزب الفرعية في تبيليسي إلى منصب وزير داخلية جورجيا. وفي هذا المنصب اكتسب لقب "الثعلب الأشيب". وانتشر صيته كرجل نزيه لا يقبل الرشى.
وفي العام 1972، ترأس الرجل منظمة الحزب في جورجيا. وخاض من موقعه هذا حملة شهيرة ضد اقتصاد الظل والفساد، إلا أنها كما هو معلوم لم تتمكن من اجتثاث هذه الظاهرة المتأصلة.
أمّا في الحياة السياسية، فعُرف شيفرنادزه بمناصرته لزعيم الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في البرسترويكا وسياسة الشفافية والانفراج في العلاقات الدولية.
ومنذ العام 1970، تقارب هذا الزعيم الحزبي الجورجي مع جاره سكرتير المنظمة الحزبية في إقليم كراسنودارسكي كراي، أي غورباتشوف. ومنذ ذلك الحين كان الرجلان يتحدثان، كما أكدا لاحقاً، بصراحة عن الأوضاع في الاتحاد السوفييتي. وقد تذكّر غورباتشوف كيف أن شيفرنادزه قال له ذات يوم أثناء الاستجمام: "كل شيء تعفن، يجب تغيير كل شيء".
وزير خارجية الاتحاد السوفييتي
وهكذا، لم يمضِ شهران ونصف على استلام غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفييتي، حتى جاء بصديقه شيفرنادزه وعرض عليه منصب وزارة خارجية الاتحاد. وقد قوبل هذا التعيين باستغراب وعدم فهم داخلي وخارجي، ذلك أن الرجل لم تكن له أي خبرة في العلاقات الدولية، ولا يعرف أي لغة أجنبية.
فبعد التعامل مع أندريه غروميكو، المهندم والصامت بانضباط سوفييتي صارم، وزيراً للخارجية، تسبب التعامل مع شيفرنادزه بصدمة ثقافية: وزير خارجية سوفييتي يبتسم ويمزح!
لكن المزاح رافقه جَدّ مفرح لم يكن ينتظره الغرب. أهم سمات حقبة شيفرنادزه في الخارجية هي تخلي الاتحاد السوفييتي عن مواقفه السياسية الخارجية، ومن أوضحها سحب القوات السوفييتية من دول أوروبا الشرقية، وحلّ حلف وارسو.
في 20 ديسمبر/كانون الأول من العام 1990، أعلن شيفرنادزه، من على منصة المؤتمر الرابع لنواب الشعب في الاتحاد السوفييتي، استقالته، محذراً من "ديكتاتورية قادمة".
وفي العام نفسه، انسحب من صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي. وهكذا، بات شيفرنادزه آخر وزير خارجية في تاريخ الاتحاد السوفييتي. ففي نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1991، بعد الانقلاب، دعاه غورباتشوف لشغل منصب الخارجية من جديد، لكنه لم يمضِ فيه سوى ثلاثة أسابيع ألغي بعدها المنصب. وفي ديسمبر/كانون الأول 1991، كان شيفرنادزه من بين أوائل المعترفين بقرب زوال الاتحاد السوفييتي.
رئاسة جورجيا
وانهار الاتحاد السوفييتي، وإذا بالرجل يُدعى من جديد إلى السلطة، ولكن من قِبل مواطني جورجيا المستقلة. كانت الفوضى في جورجيا، التي باتت جمهورية مستقلة، أدت إلى سقوط نظام زفياد غامساخوردي، في يناير/كانون الثاني 1992. وقد رأى المجلس العسكري في الجمهورية التوجه إلى شيفرنادزه الشهير ليترأس الدولة. وقبل الرجل بالتكليف ووعد بإرساء السلام وأسس الديمقراطية في الجمهورية.
تعرض شيفرنادزه في موقع رئاسته لجورجيا لمحاولتي اغتيال. ففي أغسطس/آب من العام 1995، أصيب بجراح بتفجير قنبلة، وفي فبراير/شباط 1998 تعرض موكبه لإطلاق نار في مركز المدينة. كانت إصابته خفيفة ولم تمضِ نصف ساعة حتى أطلّ عبر شاشة التلفزيون الوطني مخاطباً الشعب.
تم انتخاب شيفرنادزه مرتين رئيساً لجورجيا، في العامين 1995 و2000، بفارق كبير عن منافسيه، إلا أنه على الرغم من ذلك لم يصبح زعيماً قومياً لجميع الجورجيين. فقد تعرّض للنقد بسبب الصعوبات الاقتصادية التي عاشتها البلاد وبسبب الفساد في الجهاز الحكومي، والعجز عن استعادة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى جورجيا، وعدم حل مشكلة اللاجئين.
وتدهور وضع الرجل سياسياً بعد عام 2000. فقد بلغ حجم الدين الخارجي للبلاد، مع حلول يوليو/تموز 2005، 1.75 مليار دولار، ووقفت الدولة على شفا الإفلاس. وعاش نحو 52 في المائة من المواطنين تحت خط الفقر، وازدادت معدلات الهجرة من البلاد (في عام 1991 غادر البلاد 950 ألف مواطن، منهم نحو 600 ألف إلى روسيا)، وبلغ عدد النازحين داخلياً 300 ألف.
وفي سياسته الخارجية لم يعرف كيف ينال الرضى. فقد حاول شيفرنادزه انتهاج سياسة متوازنة بين الولايات المتحدة وروسيا، لكنه لم يفلح في ذلك.
كما أدت سياسته إلى توتر علاقات جورجيا مع روسيا، نتيجة حرب الشيشان والوضع في أبخازيا. وفي محاولة منه لتعديل النفوذ الأميركي، اتجه إلى الولايات المتحدة مطالباً بالمزيد من الدعم العسكري والمساعدات الاقتصادية، ووقّع اتفاقية شراكة استراتيجية مع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، معلناً سعي جورجيا للانضمام إلى هذا الحلف وإلى الاتحاد الأوروبي.
هذا التقارب مع الولايات المتحدة أدى إلى مزيد من التباعد مع روسيا. وفي الوقت نفسه، لم يستطع إرضاء الساسة الأميركيين الذين أرادوا المزيد. وهكذا إلى أن حلت الأزمة الكبرى.
ففي العام 2003، عانت جورجيا أزمة سياسية معقّدة. فقد خرجت ضد شيفرنادزه تظاهرات حاشدة نظمتها حركة اليمين القومية بقيادة ميخائيل ساكاشفيلي. وفي 2 نوفمبر/تشرين الثاني، أجريت انتخابات برلمانية في البلاد، لكن المعارضة رفضت الاعتراف بنتائجها، متهمة السلطة بتزويرها. فعمّت التظاهرات شوارع العاصمة تبيليسي، وأطلق عليها اسم "ثورة الورود". أما النتيجة الحاسمة فتحققت بمساندة قوات الأمن الجورجية لهذه الثورة. فقد احتل أنصار المعارضة مبنى البرلمان، وعرضت يومها قنوات التلفزة العالمية صور دفع شيفرنادزه من عنقه لمغادرة القاعة. وبعد أسبوعين من الممانعة، وقّع الرجل استقالته في 23 نوفمبر/تشرين الثاني.
عاش شيفرنادزه المستقيل بقية سنوات حياته في منزله في حي كراتسانيسي الحكومي، الذي بُني في حينه بأمر من قبل لافرينتي بيريا السيئ الصيت، في العاصمة تبيليسي. ومع أن حكومة ميخائيل ساكاشفيلي باعت هذا المشروع الحكومي التاريخي لمستثمر أميركي إلا أن بيت شيفرنادزه بقي خارجه.
في يونيو/حزيران 2006، أنهى شيفرنادزه عملاً استمر ثلاث سنوات في وضع كتابه "أفكار حول الماضي والمستقبل"، تحدث فيه عن حياة روسيا السياسية، في أعوام الثمانينيات والتسعينيات، والوضع في القوقاز، وذكرياته مع رونالد ريغان ومارغريت تاتشر وجيمس بيكر.