جهود لا بدّ منها في إسكندنافيا

20 يونيو 2017
صغيران مندمجان.. ماذا عن عائلتيهما؟ (العربي الجديد)
+ الخط -
وسط استوكهولم، تسير الشابة وهي تدفع عربة أطفال وإلى جانبها صديقات لها. يتحدثنَ بلغة سويدية واضحة، لكنّهنّ مجموعة من عربيات وتركيات وبوسنيات يجمعهنّ مولدهنّ في السويد ولغتها وثقافتها. تكشف ميرا سريعاً أنّ والدَيها "لاجئان فلسطينيان من لبنان"، قبل أن تخبر أنّها وزوجها اتفقا على أن تتحدّث هي بالسويدية مع طفلهما في حين يتحدّث هو معه بالعربية.

هي اللغة التي تؤكد شانيتا كارلسون - موظفة في مشروع دمج في استوكهولم - أنّها "جزء أساسي من عملية الاندماج. فاللغة مفتاح ثقافي ومعرفي لمستقبل من يعيش في مجتمع غير مجتمعه أو مجتمع والدَيه". تقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "المشكلة لا تتعلق بهذا الجيل الشاب، بل ببعض الأهالي. والمشكلة المتفاقمة في الطرح المجتمعي والسياسي حالياً تتعلق بآلاف وصلوا حديثاً ولم يحصلوا على الفرصة ذاتها. نحو 160 ألف لاجئ جلّهم من العرب، انضموا إلى مئات آلاف يستقرون في السويد منذ سنوات". وتخشى كارلسون من "انحراف نقاش دمج اللاجئين عن مقصده، إذ لا يمكن الطلب من الناس الانصهار أو قمع لغتهم وثقافتهم بمجرد أنّهم أتوا إلى اسكندنافيا. علينا أن نكون أكثر ليونة وإبداعاً في المجال". والحالة السويدية ربما سهلت كثيراً مسألة القبول على الجيل السابق من اللاجئين والمهاجرين، بثقافة الانفتاح بعيداً عن النمطية والأحكام المسبقة.

بخلاف الحالة السويدية التي كانت في السنوات التي سبقت عام 2015 أقلّ تشنجاً في "تقبّل الآخر" مع جدال أقلّ حدّة، فإنّ الدنمارك تجد نفسها غارقة منذ ثلاثة عقود في سؤال "الاندماج". يشدّد سفيان، وهو شاب دنماركي من أصول عربية يعمل اليوم في جهاز أمني في الدنمارك، على أنّه "لا بدّ من الاعتراف بأنّنا أمام معضلة. لا يمكنك جمع الناس في غيتو، سواء في ضواحي كوبنهاغن أو أودنسه أو آرهوس (المدن التي تكتظ باللاجئين والمهاجرين منذ ثمانينيات القرن الماضي)، وتتوقع أن تكون النتيجة مغايرة لما هي عليه اليوم".

يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "أيّ شخص عاقل يرى تجمعات المهاجرين سوف يظنّ نفسه في بيروت أو إسطنبول أو كراتشي. وهذا ليس اندماجاً، بمعنى أنّه ليس ما يريده الدنماركيون أنفسهم بل ما تريده أنت لأبنائك ومستقبلهم". ويتابع سفيان: "صحيح ما يقوله البعض عن الهجرة المؤقتة، فهؤلاء عاشوا بالفعل وهمّهم ادّخار المال لشراء شقة والبدء بحياة جديدة في بلادهم، مسقطين من حساباتهم انعكاس ذلك على الأبناء الذين يتوهون بين ثقافتين. لا أفهم لماذا يهاجر البعض إذا كان يريد العيش كأنه ما زال هناك؟". ويشدّد على أنّ "لا شيء يسمّى هجرة مؤقتة حين تحمل الأطفال إلى بلد غربي. الوالدان يتقدمان في السنّ من دون أن يندمجا في الحياة هنا، أقلّه في ما يتعلق باللغة. وإذا عادا إلى بلادهما الأصلية، يجدان أنّهما غير قادرَين على التأقلم مع حياة تلك البلاد، فيرجعان سريعاً إلى بلد اللجوء".

يتابع بشيء من الإحباط إنّ "ثمّة مشكلة بين زملائي حيال المهاجرين. على الرغم من أنّ هؤلاء شباب، فإنّ نعرات تمييزية ما زالت تصدر عنهم لا تُحصر فقط بالكلام، وهذا يؤدّي إلى حالة من التشنّج". يتابع: "لا يمكنك أن تنظر إلى الناس وتفرزهم على أساس اللون والعرق، وتقول في الوقت نفسه إنّهم مواطنون. نحن في حاجة إلى جهد مضاعف لكي يُصار إلى الالتقاء في منتصف الطريق وإلى الإقلاع عن تصنيف هم ونحن".

عبد الله الشريف، صاحب محل عربي في مدينة آرهوس، وسط غرب الدنمارك، يشير إلى اثنَين من زبائنه قائلاً: "انظر إلى الشابَين المجتهدَين كيف يحملان حقيبتيهما ويذهبان إلى المدرسة". الاثنان كانا لاجئَين سوريَّين وفدا حديثاً إلى البلاد، وقد أوضحا لـ"العربي الجديد"، أنّهما بالفعل يجتهدان لتعلم اللغة. يقول أحدهما إنّه "لا يمكن فعل شيء هنا من دون لغة. لكنّني أعترف بصعوبتها، والأصعب أنّه مجتمع منغلق جداً. بصراحة ندمت لأنّ حظي كان في الدنمارك". أمّا رفيقه، سيار، وعلى الرغم من أنّه يشكو من "صعوبة تعلم اللغة في الثلاثين"، فإنّه يشير إلى أنّه "ممّا تلي علينا في برنامج الدمج، أشعر بأنّهم (الدنماركيون) يريدون تجنّب أخطاء الماضي، فلا يكدّسون المهاجرين واللاجئين في تجمعات معينة".

في السياق، يعلّق ناصر خضر، وهو عضو في البرلمان من أصل عربي، على الحالة الدنماركية بالقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "أفضل ما يمكن أن يفعله اللاجئون هو السعي بجدية إلى التعرف على ثقافة البلد وتقاليدها ومن ثم تقبلها. لا بدّ من التصرف بمنطق، فأنت مقيم هنا لوقت طويل وهو ما يعني أهمية تعلم اللغة والاندماج في سوق العمل". يضيف أنّ "الأفضل على الإطلاق هو السعي إلى المشاركة في الديمقراطية، بدءاً من الحيّ وصولاً إلى الانتخابات العامة، البلدية والوطنية لمن يستطيع، والانخراط في الأحزاب السياسية فرصة كذلك. أمّا التقوقع واتخاذ موقف من المجتمع على أساس ديني، فمن شأن ذلك أن يعيق انعكاس صورة جيدة عن هؤلاء. عليهم التصرف كمواطنين في المجتمع".

في تجمّع "جمعيات المهاجرين" في آرهوس، يرى الناشط من أصل فلسطيني مالك البطران، أنّ المسألة تتجاوز تحميل اللاجئين والمهاجرين كل المسؤولية. ويقول لـ"العربي الجديد"، إنّه "منذ أكثر من 30 عاماً والحكومات المتعاقبة من يسار ويمين الوسط تتحدث عن سياسات دمج، لكن أياً منها لم تعترف بفشل تلك السياسات سوى أحزاب يسارية معارضة".

بالنسبة إلى البطران الذي جرّب الحياة خارج فلسطين أثناء دراسة الطب في رومانيا في الثمانينيات، فإنّ "الاعتراف يعني أن تختار أدوات أخرى غير تلك التي تعتمد فقط على تشديد القوانين. لقد أخطأت سياسة البلد في الإسكان، وأخطأ المجتمع في نظرته النمطية وأحكامه المسبقة، وأخيراً انتشار رهاب الإسلام، وهو ما دفع نحو تشكّل مجتمعات هامشية. والحلول بسيطة جداً: "قبول محمد وخالد وسمية وأمينة مثلما تتقبل أندرس وكريستيان وتينا وكريستينا... فلا تُفرَز طلبات التوظيف أو الإسكان أو كل ما يتعلق بالمواطنة، لتشعر الأجيال الجديدة بأنّها جزء من هذا المجتمع وبقية المجتمعات الأوروبية".

لا تختلف المرشدة الاجتماعية ترينا يوهانسن - ذات الميول اليسارية - في موقفها عن البطران. فهي تحمّل السياسيين كذلك أخطاء السنوات الماضية، "إذ إنّه من غير المفهوم كيف تستقبل الناس وتمنحهم إقامات وحماية وثمّ على مدى عقود تعبّر عن عجز. ولا أصدق أنّه عجز، بل هو سياسة ممنهجة لتهميش مئات الآلاف عبر القول بوقاحة في الصحف وعلى شاشة التلفزيون وفي الخطاب البرلماني إنّ هؤلاء من العالم الثالث، بالتالي لا يمكن دمجهم". تضيف أنّ "هذا قول تحوّل إلى سياسة عند وزيرة الدمج إنغا ستويبرغ، للأسف، ومن هنا نطلق عليها لقب وزيرة التنفير لا الدمج". بالنسبة إلى يوهانسن فإنّ "المسألة تتطلب تحركاً في الاتجاهين، انفتاح المجتمع الدنماركي بمؤسساته وشارعه من جهة وانفتاح مجتمعات اللجوء والهجرة من جهة أخرى. يجب الابتعاد عن قراءة التشنج دينيا، يمكن نقد السياسات بالسياسة والبرامج والفكر، وحين تصل المسألة لاعتبار أن السلبية تقوم على الدين فذلك سيخلق جمودا، إن لم يكن تراجعا خطيرا".

وتعود موظفة الدمج السويدية شانيتا كارلسون لتعبّر عن خشيتها من أن "تعجز دول الرفاهية الاسكندنافية عن انتهاج سياسة دمج في مالمو وغوتيبورغ واستوكهولم وأودنسه وآرهوس وضواحي كوبنهاغن، فتنشأ حالة من التنافر والعزلة في مجتمعات مهمشة، فتصبح بالتالي إعادة الدمج متأخرة ومكلفة بعد سنوات". تضيف: "ربما تذرّعت حكومتنا (السويدية) بإغلاق الحدود (منذ يناير/ كانون الثاني 2015)، إذ إنّها ترغب في سياسة دمج أخرى من دون إغراق البلد باللاجئين. لكنّه بعد أكثر من عامين ونصف العام، فإنّ الصورة غير مطمئنة أبداً. يكفي أن تنظر إلى شعبية اليمين وارتفاع نبرة العنصرية ورفض اللاجئين، لتكتشف أنّنا لسنا أمام ما هو مبشّر إن لم تتغير سياسات الدمج جذرياً وتحت سقف المواطنة وبجهد من الطرفَين".

دلالات
المساهمون