جهاد الطائرات المُسيّرة

26 اغسطس 2019
+ الخط -
في تطور قد يدشّن مرحلة جديدة في إدارة الصراعات المنتشرة في الشرق الأوسط، أعلن حزب الله اللبناني أخيراً سقوط طائرتين مُسيّرتين إسرائيليتين فوق الضاحية الجنوبية لبيروت. ولهذا التطور دلالة مهمة، لجهة التوتر المتزايد في المنطقة، وتداخل الحسابات والأدوات بين الأطراف المباشرة المتصارعة والشركاء الإقليميين والدوليين. غير أن المغزى الأعمق يتعلق باتساع نطاق استخدام الطائرات المسيرة وانتشاره في الشرق الأوسط، سواء في سياق النزاعات المسلحة والمناوشات الجارية هنا وهناك، أو ضمن عمليات استخبارية وتحرّكات عسكرية غير مباشرة. فبعد أن تبادلت واشنطن وطهران اتهاماتٍ بإسقاط طائرات مسيرة فوق مياه الخليج، يبدو أن حرب "الدرونز" انتقلت بينهما إلى اليمن، فقد اتهمت الولايات المتحدة إيران بالتورّط في إسقاط طائرة أميركية مُسيرة فوق الأراضي اليمنية، بينما لا تزال حرب الطائرات المسيّرة مستمرّة على قدم وساق بين الحوثيين والتحالف العربي في اليمن. وفضلاً عن المواجهات المسلحة الجارية فعلياً في المنطقة، صار استخدام الطائرات المسيّرة بدون طيار ظاهرة منتشرة لدى دول المنطقة، سواء لأغراض القتال الفعلي، أو لاستخدامات أخرى عسكرية وأمنية بالطبع.
سيترتب على دخول ذلك الوافد إلى ساحات الصراع وميادين القتال في المنطقة التحول إلى القتال عن بُعد، حيث لا مواجهات مباشرة بين القوى المتحاربة، ما يعني نقلةً جوهريةً في مجال التسليح وأدوات الحرب، تبدأ بالتخلي عن اعتماد الجيوش على الأعداد الكبيرة من المقاتلين، لصالح نوعية معينة من الكفاءات البشرية الماهرة في مجالات الاستطلاع والحرب الإلكترونية ونظم التشويش والتحكّم والتوجيه عن بعد. وبالتوازي مع هذا التحول المتعلق بالطائرات المسيرة على وجه الخصوص، سيكون من السهل استحداث أسلحة وأجهزة جديدة ذاتية التوجيه، أو قابلة للتحكم والتسيير عن بعد. كما ستتقاطع أوجه استخدام تلك الأسلحة الجديدة من نوعها، بشكل تسقط الفواصل الجغرافية والوظيفية بين ميادين القتال التقليدية، نظراً لقابلية استخدام الأجهزة والأدوات والأسلحة القتالية الجديدة (المسيّرة أو الموجهة إلكترونياً) في الأرض والجو والبحر.
وفي ظل التقدّم التقني الهائل، واتجاه دول في المنطقة إلى الفضاء بوصفه مجالاً أرحب للتنافس العسكري والتكنولوجي، وساحة جديدة للقتال عن بعد، والتنافس على النفوذ والسيطرة، يصير الباب مفتوحاً لمزيد من التطور والتحديث في أدوات القتال الإلكتروني وتطبيقاته، وخوض الحروب عن بُعد.
وفي مستوى آخر، تتجاوز هذه النقلة الجانب التقني في منظومات التسليح واستراتيجيات القتال، إذ ستمثل تحولاً جذرياً في فلسفة الحروب والثقافة القتالية. وسيجد المقاتلون أنفسهم عاجزين، أو بالأصح في غير حاجة إلى التضحية بالنفس من أجل الانتصار للوطن أو للدين أو لأي قيمة عليا. إذاً، فإن مصطلحات مثل الجهاد والاستشهاد (ولاحقاً الخروج في سبيل الله)، ستواجه مأزقاً معرفياً على المستويين المفاهيمي والإجرائي. إذ لن يضطر من يسعى إلى محاربة أعداء الوطن أو الدين أو أي عدو، إلى الانتقال إلى مواجهته وقتاله وجهاً لوجه. وسيمكنه خوض الحروب وإدارة المعارك بأجهزة تحكّم (ريموت كونترول) تتولى تحريك جيوش من طائرات بدون طيار وسفن آلية التسيير وألغام متحركة ذاتياً وقنابل موجهة مسبقاً.
وكما أصبحت حروب القلوب والعقول تجري في الفضاء الإلكتروني، أو عبر الشاشات من دون لقاء مباشر بين المرسل والمتلقي، سيتحول القتال العسكري والحروب الجديدة في المستقبل القريب، إلى معارك صغيرة تتخلل ميادين قتال متنوعة وغير متوقعة، لأنها غير تقليدية. والأهم أنها ستكون حروباً بلا خسائر بشرية مادية، فلن يذهب ضحيتها قتلى وجرحى، وإنما ستتقارع فيها الأسلحة. ومن تنكسر قدراته التسليحية تسقط بالتبعية إرادته السياسية. وحينها تكون الخسارة مضاعفة والهزيمة مريرة، أمام شعبٍ لم يسقط منه جنود، وإنما فقد كرامته أو قراره أو أرضه.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.