جنيه وغويتيسولو: المرآة والوجه

14 يونيو 2016
الفنان الفرنسي هنري روسو (Getty)
+ الخط -
كان جان جنيه صديقًا لمونيك لانج يتردد على شقتها في شارع "بواسونيير" في باريس كل يوم تقريبًا، بل كان يعتبر منزلها صندوقه البريدي نظرًا إلى عدم استقراره في مسكن ثابت. وحين توثقت عرى خوان غويتيسولو بمونيك (التي سيقترن بها سنة 1978)، تكررت لقاءاته بجنيه، كما توالت مشاكساتهما وصداماتهما الصغيرة التي كانت تترك لدى الكاتب الإسباني شعورًا مبهمًا إزاء زميله يتميّز بالعدوانية والافتتان.

خلال سنة 1956، عكف خوان على قراءة كتابات جنيه الروائية والمسرحية الصادرة إلى حدود ذلك التاريخ، فكان تأثيرها الأدبي والخلقي عليه هائلًا وعميقًا: ففضلًا عن إدراكه الفرادة المذهلة لأسلوب الكاتب بالمقارنة مع النزوع الشكلي الذي كان مهيمنًا على النثر الأدبي حينئذ في فرنسا، شعر بأن الاحتكاك بنصوصه المستمدة من تجربة حياة مريرة، كان يقحمه بقوة في عالم الغواية الذي كان خوان يصر على تجاهله: عالم ملتبس، حدسه منذ مراهقته على نحو غامض، لكن التربية الصارمة التي لُقـِنها في المدارس الكاثوليكية، والأحكام المسبقة التي ثقفها في بيئته المحافظة، كانتا تحولان دون فحصه أو التأكد من مشاعره حياله.

خلال الثلاثين سنة التي تشكلت عبرها لحمة وسدى علاقاتهما، لم يكف غويتيسولو عن تتبّع ومعاينة تصرفات جنيه عن كثب. هكذا احتفظت ذاكرته بوقائع عديدة كان شاهدًا عليها أثناء تسكعهما في شوارع باريس أو إبان الأسفار التي ترافقا فيها، وستكتسي، أثناء التأمل، أبعادًا ودلالات لم تكن انعكاساتها متوقعة. لم يكن هدف خوان من وراء ذلك حصر مكونات سيرة كاتب استثنائي عاصره، بل تحديد مضمار حضور مؤثر في وجدانه، لكنه منفلت وضال في الوقت نفسه. كانت تصرفات جنيه توحي بكونه هادئًا ومتوازنًا: كان ينفر من حياة الليل نفورًا ورعًا، ويفضّل النوم باكرًا، كما كان يقيم بمفرده في فنادق متواضعة أو فقيرة تقع غالبًا على مشارف محطات القطار الرئيسية، مؤكدًا بذلك خفته وشهوته المباغتة إلى التلاشي والغياب من دون التماس إذن من أحد. لم تكن أمتعته تملأ أكثر من حقيبة متوسطة الحجم يضع فيها ملابس داخلية قليلة، وبعض الكتب والدفاتر، وعبوات حبوب منومة أو مضادة لآلام الحنجرة، وعلب سجائر هولندية. لكن جنيه، وراء هذا المشهد "الوديع "، كان ينطوي أيضًا على نزعة إيذاء حية لا تكل: كان يتغنى بالجريمة والسرقة والجنس، من دون أن يتورع عن فرض ديونه، الوهمية أو الحقيقية، على المجتمع. هكذا كان يرد باحتقار على إعجاب أناس وقورين، ويستعرض سخريته القاسية إزاء من يجاملونه بنفاق، فيما كان يستخلص من معارفه الأثرياء أموالًا لتوزيعها توًا على المهمشين والمنبوذين الذين لم يحظوا مثله بمتع الحياة وملذاتها.

على هذا النحو اكتست صورة جنيه لدى خوان شكل نموذج إنساني متناقض، أو مجازًا شكل "رجل مستوحد وسط الزحام"، يعكس في عمقه قطيعة أو سيناريو قطيعة، لكنه لا يلهج أبدًا بطبيعة هذا التناقض التي ترقد مبهمة وخافية وراء السلوكات المحرجة والمواقف المباغتة. فهل كان الكاتب الفرنسي، بسلوكاته تلك، يقف على حافة قداسة مشاكسة تقع على طرف نقيض من المواطنة بمفهومها الغربي: قداسة شعبية "سفيهة"، تتحدى الأعراف، وتتلهى بذاتها، ولا تجد أي حرج في ممارسة كل منفّر شنيع؟

يروى أن المتصوف المرسي ابن عربي كان يقول: "الرائي والمرئي فيك فلا تنظر إلى ما دونك". تعكس هذه العبارة أفضل تصور لما آلت إليه علاقة غويتيسولو بجنيه. فمع مرور الأيام، لم يعد هذا الأخير بالنسبة لخوان مجرد كاتب فذ يتوفر على تصرفات غريبة وقساوة فاتنة، بل غدا أشبه بمرآة واعدة، تنطوي على عتمة بشارة محررة للذات من قيودها، ومورطة لها بشكل أليم. لقد تتبّع تحركاته، وأصغى إلى آرائه، وطارد ظله هنا وهناك، باحثًا فيه عن جذور صورته هو واحتمالات تحولها، بحيث سيكون عليه أن يُحل محل المواربة والتحايل إزاء الكينونة، صراحة الحلول في حقيقة الذات. نتيجة لذلك، سيعترف خوان أنه إذا كان في شبابه قد وجد ضالته، عن وعي أو غير وعي، في بعض الكتّاب الأوروبيين والأميركيين (وخاصة فولكنر)، فإن جنيه لم يفتأ أن غدا المؤثر المهيمن على مجريات وجوده: فقد علّمه التخلص تدريجيًا من الخيلاء الفارغ، والانتهازية السياسية، وحب الظهور على منصات المجتمع الأدبي، كما علمه التفرغ للأعمق والأصعب، وأعني الكتابة بما هي رهان مصيري.


ولولا جنيه، لكان من المحتمل ألا تتبلور لدى خوان العزيمة الضرورية لتمزيق صلته بسلّم القيم المجمع عليها في مجتمعه، أو القبول بفداحة عواقب العزلة الخالقة، أو الانصراف كليًا إلى الكتابة التي تستوعب في مغامرتها الجسد والوعي في الوقت نفسه.

قبل أربعة وعشرين عامًا، وبمناسبة مرور ست سنوات على وفاة جنيه، نشر غويتيسولو بالملحق الثقافي لصحيفة (El Païs) الإسبانية مقالته الشهيرة "الشاعر دفين العرائش"، التي عمد فيها إلى تقديم تأويل مثير لسيرة الكاتب الفرنسي وشخصيته المعقدة يرمي إلى إخراجه من "طهارته" الغربية المتراوحة بين كراهية الكنيسة وتحدي المواضعات الاجتماعية بما في ذلك القانون. لم يكتف خوان بالتأمل في المعنى الدقيق لحياة نظيره وآثاره المكتوبة والمشخصة على عديد الخشبات، وإنما رأى فيه، وفي دفنه ـ حسب وصيته ـ بمدينة العرائش المغربية، صورةً مجازية تكشف انتماءه السري إلى مصطلحات التخييل الصوفي أو تواضع الولاية على الطريقة الملامتية. في هذا الصدد، يبرز الكاتب الإسباني أن أتباع هذه الطريقة، شأنهم في ذلك شأن جنيه، كانوا "يتلافون كل تصرف ينم عن ورع، بل يتظاهرون بسلوكات تحث على زجر الغير لهم، وذلك سعيا منهم إلى حجب معدنهم الصوفي وجعل تقاهم العميق بمنأى عن أنظار الناس".

المساهمون