جمال الدين بن عبد الجليل: على مقربة من التنوير

11 مارس 2016
(جمال الدين بن عبد الجليل)
+ الخط -

هناك أطروحة متداولة عربيّاً تؤكّد فضل الفلاسفة العرب على الحضارة الغربية. إنها مقولة تحتاج إلى فحص متجدّد، لا إلى التأييد أو التفنيد المباشر. لعل موقع جمال الدين بن عبد الجليل (1968)، كباحث تونسي في الفلسفة الإسلامية وأستاذ بمعهد الفلسفة والدراسات اللاهوتية في "جامعة لودفيغسبورغ" الألمانية، يتيح لنا أن نقارب هذا التساؤل.

يكتب بن عبد الجليل باللغة الألمانية، وصدرت له مؤلّفات منها كتاب "فلسفة ابن رشد.. قراءة تثاقفية" (2005) و"مقاصد التشريع الإسلامي" (2014) بالاشتراك مع سردار كورناز، إضافة إلى ترجمة كتاب ابن طفيل "حي بن يقظان" (2007) مع تعليق بالاشتراك مع فيكتوريا فريساك.

بعد مغادرته تونس، مطلع التسعينيات، استقرّ بن عبد الجليل في فيينا حيث درس الفلسفة. يقول "انصبّ اهتمامي وشغفي بادئ الأمر على الفلسفة المثالية الألمانية، وخصوصاً فلسفة كانط. لكنني طرحت على نفسي سؤالاً شغلني ولم أجد له جواباً بسهولة: كيف أقرأ كانط؟ أي، بأي عقل أقاربه وأفهمه؟ فباعتبار أني لست ألمانياً، وأنني قادم من خلفية ثقافية ونفسية مغايرة، كيف أقرأ كانط على خلاف غيري؟

يضيف: "هذا السؤال كان مدخل بحثي في فلسفة العصر الوسيط، وهو مشغل فلسفي لم يكن مطروحاً في في النمسا وألمانيا خلال تلك الفترة، قبل أن يتغيّر الوضع بالتدريج لاحقاً".

هذا الاهتمام بالفلسفة الوسيطة يرجعه بن عبد الجليل إلى ظهور تيار "الفلسفة التثاقفية" في ألمانيا مع فرانتز مارتن فيمر (1942). ينطلق هذا التيار من استشكال حول تاريخ الفلسفة: كيف يمكننا أن نقرأه وهو يبدو مبتوراً ومنقوصاً؟ يرى بن عبد الجليل أن تاريخ الفلسفة "يعبّر عن قراءة مسبقة ومضمرة، ويُظهر أن الفلسفة أوروبيةٌ تحديداً، لغتها هي اليونانية أو اللاتينية قديماً، والألمانية والفرنسية والإنجليزية في العصور المتأخّرة". هكذا يرى أن "الفلسفة وُضعت لها صورة بملامح شقراء، بيضاء اللون، وذكورية".

تطرح المدرسة التثاقفية أيضاً سؤال "هل هناك فلسفة خارج الإطار الأوروبي؟". يعتبر بن عبد الجليل أن هذا السياق كان مدخلاً كي تكون الفلسفة الإسلامية موضوع بحث في جامعة فيينا. يقول "أعتقد أنه لولا هذا السياق لتوقّفت مع كانط. وهكذا صرت أتلمّس طريقي إلى الإجابة عن سؤالي من خلال الرشدية".

حول أعماله ضمن هذا المبحث، يقول "لاحظت أن الرشدية كانت تياراً معتبراً في القرون الوسطى في أوروبا. وهي باعتقادي توطئة وتمهيد نظري لفلسفة الأنوار. وهذا افتراض أشتغل عليه، ومن خلاله أحاول أن أضيء القيمة المضافة التي قدّمتها الفلسفة العربية الإسلامية للانتقال من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الحديثة".

يشير بن عبد الجليل إلى أن الرشدية تتضمّن المنتج الفلسفي العربي الذي قدّمه أبو الوليد بن رشد إضافة إلى التأثّر بمعظم الفلاسفة العرب، كالكندي والفارابي وابن سينا والغزالي، وهو يحرص على أن يفرّق بين ابن رشد والرشدية باعتبار أن الأخيرة تُعتَبر نتاجاً خاصاً بالسياق الأوروبي، فأثرها واضح في أعمال توما الإكويني، كما يربط علاقة بين الرشدية وصولاً لفلسفة التنوير مع كانط، معتبراً أن ثمّة حلقات تربط بين الأول والثاني مثل أعمال لابنيتز، وخصوصاً أعمال موسى مندلسون، معاصر كانط وصديقه، والذي يمثّل استعادة تنويرية لابن ميمون بمسحة رشدية.

تركيز بن عبد الجليل في أبحاثه على فكر مندلسون نابع من كون الأخير "يمثّل نقطة مفصلية على عدّة مستويات، فإضافة إلى موقعه في التنوير الغربي، يمثّل في الآن ذاته بداية ونهاية ضمن الفكر الديني اليهودي؛ نهاية تصوّر تقليدي سلفي كان سائداً انتقل به إلى ما يمكن تسميته نظرةً علمية للدين اليهودي بإدخال الحالة التنويرية للسياق اليهودي".

لعل أهم ما شدّ بن عبد الجليل إلى الفيلسوف الألماني هو أنه قام بذلك من داخل النسق الديني، وليس من خارجه كما هو الحال مع سبينوزا. من هنا، يرى أنه "يمكن الاستفادة من تجربته في البحث عن إجابة عن سؤال: كيف يمكن أن نحدث فعلاً تنويرياً دون القطع الكلي مع التراث الديني؟ أي على خلاف التنوير في سياقه الأوروبي المسيحي الذي انبنى على قطيعة رآها ضرورية مع التراث، وخصوصاً بصورة حادة من خلال السياق الفرنسي".

يعتبر الباحث التونسي أن ثمّة تواز بين ما حقّقه مندلسون في السياق اليهودي (الديني والفلسفي) من نقلة تنويرية مع سياقنا العربي الإسلامي المنشغل بهذا السؤال اليوم. وهو يعتبر أن هذا المشغل فرصة كي نرى تجارب أخرى من التنوير، باعتبار أن اختلافنا مع التنوير الأوروبي أعاق الاستفادة منه. يقول "ليس من الضروري التوقّف عند تجربة واحدة والتمسّح بها وعبادتها. ينبغي الانفتاح على التجارب بنوع من البراغماتية المعرفية".

الاهتمام بمندلسون لم يكن فقط للربط بين الرشدية وكانط، بل هو يتقاطع أيضاً مع التخصّص الفلسفي لبن عبد الجليل؛ فلسفة الأديان. في الحقيقة، يعود هذا الاهتمام إلى زمن مبكّر، سابق للإقامة في النمسا وألمانيا، حيث درس أصول الدين في "جامعة الزيتونة" في تونس.

يعود بن عبد الجليل بالذاكرة إلى تلك الفترة، مطلع التسعينيات، حين قرّر أن يهاجر. يقول "كانت لي رغبة جامحة آنذاك للمغادرة. كانت فترة ضيق، بدأ فيها نظام بن علي يستعرض جبروته. حرصت على السفر حتى تنفتح أبواب أخرى في الجغرافيا وفي المعرفة".

وعن اختيار الفلسفة كاختصاص دراسي جديد، يقول "هو تقدير بأن الفلسفة تقي من "غباء التخصّص" أو الجهل المرتبط بالتخصص، نظراً لانفتاحها على المعارف الأخرى. وفي النهاية، عدتُ من خلال الفلسفة إلى الاشتغال على الفكر الديني". تتناول بحوثه الأخيرة فلسفة الحق في السياق الإسلامي من خلال مقاصد الشريعة وأصول الفقه.

تُرى، كيف ينظر بن عبد الجليل اليوم إلى الفكر العربي من موقعه هناك في "المركز" الألماني؟ يقول "لا أرى نفسي في موقع يخوّل لي الحكم بالتدقيق في مسارات الفكر العربي اليوم. ثمّة تمظهرات عدّة، وأعتقد أن الفكر العربي الإسلامي يتمظهر في العقود الأخيرة من خلال مؤلّفات وأعمال، بقطع النظر عن الجغرافيا مثل أعمال محمد أركون ونصر حامد أبوزيد وإدوارد سعيد وهشام جعيط وعبد الله العروي وطه عبد الرحمن وغيرهم".

يتابع "أعتقد أن السؤال عن وجود فكر عربي إسلامي اليوم هو مبحث في حد ذاته، لا إجابة عليه بنعم أو لا. أنا متفائل رغم العتمة السائدة. هناك محاولات تأسيسية خصوصاً في المغرب العربي والمهجر، لكنها تظل لمحات دون أن تتأسّس بشكل مدرسي نسقي أو في تيار له من الزخم ما يجعله يؤثّر في المجتمعات والقرارات".

كيف تتلقّى ألمانيا، باعتبار مركزيتها في مجال الفلسفة، الفكر العربي؟ يرى جمال بن عبد الجليل أن "معظم ما يصل من العربية إلى الألمانية يأتي في إطار الدراسات الاستشراقية. ثمّة حرص هناك على المتابعة". ويرى أن "الترجمة من العربية إلى الألمانية تظل أداة تلبّي حاجيات المتخصّصين، وقلّما نجد كتابات عربية للجمهور الموسّع".

عن خيارات الترجمة لديه، يقول "قمت بذلك بالأساس على مستوى المقالات في الاتجاهين. أما نقل المؤلّفات، فهي مسألة مرتبطة بالوقت، وهو مشروع مطروح لدي". سألناه فيم يفكر في ترجمته من العربية إلى الألمانية، وبالعكس؟ فأجاب: "أحب أن أترجم في مجال تخصّصي، هناك حاجة إلى تجاوز ما حقّقته مدرسة الاستشراق الكلاسيكي في نقل التراث الإسلامي. أمّا من الألمانية إلى العربية فالقائمة طويلة جداً".

وعن حركة الترجمة العربية عموماً من الألمانية، فيرى بأنها "للأسف حركة باهتة ومعيبة. ولكن الأمر الإيجابي الوحيد هو ظهور محاولات جادّة تتطوّر جودتها بمرور العقود". يعتبر بن عبد الجليل هنا أن "جزءاً من مشكل الفكر العربي يتعلّق باقتصاره على الترجمة من الفرنسية والإنجليزية وجعل هذه اللغات وسائط حصرية للوصول إلى المعرفة".

حول التيارات السائدة في الجامعة الألمانية، يعتبر بن عبد الجليل أن كانط وهيغل ونيتشه لا يزالون مسيطرين، وبدرجة أقل هوسرل وهايدغر. لكنه يلاحظ أن ثمّة متغيّرات اليوم، فألمانيا تستوعب كل التيارات التي تظهر، مثل تيارات ما بعد الحداثة أو الفلسفة البراغماتية أو التفكيكية.

هنا، يشير بن عبد الجليل أن الفلسفة في ألمانيا تختلف في أسئلتها ومقولاتها وسياقاتها عن بقية المشاهد الفكرية الأخرى. ففي حين أن فرنسا أو أميركا تتداخل فيهما الفلسفة مع مناحي أخرى، سياسية وأدبية ومختلف العلوم الإنسانية، فإن الفلسفة في السياق الألماني حافظت على نقاوتها التخصّصية.

الملاحظ هنا، شيئاً من المركزية الألمانية التي يفسّرها بن عبد الجليل بأنها نابعة من الاكتفاء، حتى إن التيارات الحديثة في الفكر ظلّت تُحمل على طرافتها ولا تؤخذ جدياً ضمن بنية المركز، أي يُنظر إليها كمطعّم وليس كمؤسّس.

يعتبر بن عبد الجليل أن مأزق الفلسفة ليس ألمانياً تحديداً، حتى أنه كثيراً ما بتنا نطرح أسئلة من قبيل: ما مدى الحاجة إلى الفلسفة أصلاً؟ وما مدى الحاجة إليها في السياق الأوروبي؟ وهل أن قيمة الفلسفة متوهّمة أم حيوية؟ هذه الأسئلة تشير إلى عدم إيجاد أفق فلسفي أوسع من ذلك الذي تحقّق إلى الآن على أيدي كانط وهيغل ونيتشه بالأساس.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تلك الفجوة
خلال دراسته الفلسفة في فيينا، لاحظ جمال الدين بن عبد الجليل أن ثمّة ثغرة في تاريخ الفلسفة؛ حيث يجري القفز من اليونان القديمة إلى عصر التنوير. هذه الفجوة هي إحدى مشاغل المدرسة التثاقفية التي تتساءل: هل هناك فقط فلسفة أوروبية؟ وهي تأتي ضمن نزعة حديثة مضادّة لسطوة مقولات المركزية، لتطرح نفسها كحل لهذه الإشكالية وتحقيق انفتاح تتجاوز به الفلسفة مركزيتها، والتي هي بمعنى ما عملية تحجيم لها.



اقرأ أيضاً: حكاية المفكّر حسن