منذ اللحظة الأولى لرؤية أعمال معرض "اعْبُر العالَم" للفنان والأكاديمي جمال الخشن، يخطف العريّ أبصار الناظرين؛ إنها الصدمة الحسّية الأولى التي يتوخّى أيّ فن تقديمها، بيْد أن ما يختبره المُشاهد بعد ذلك في المعرض المقام في "مركز الجزيرة للفنون" بحيّ الزمالك في القاهرة يقود إلى تأويلات فنية لا يكون العري فقط أو خصوصاً بؤرتها، إنما الترجمة اللونية التي يمنحنا العري بها نفسَه.
إن اللون هنا يتعدّى حدود ملء مساحة اللوحة، لِيكوّن معنى العمل نفسه، وشكواه. فالذي تبثه لنا الأجساد بألوانها الرمادية الكابية، بطبقاتٍ حادة وناعمة من اللون الأسود تبدو معها جلودها كما لو كانت مصنوعةً من أسفلت الشوارع، ليس أقلّ من الشعور بالتيه والوحشة؛ ثم إن هناك إحساس الانسحاق أمام الحياة المعاصرة، ذلك الذي وإن لم يكن جديداً كموضوع للمعالجة الفنية والبصرية، فإن الجديد فيه هو النقلة النوعية في أعمال الفنان ذاته قياساً إلى معرضه الشخصي الفائت "نهاية فصل".
هنا يوحّد التيه ما بين الأجساد الأنثوية والذكرية، بمعنى أن اللحم (لونه الموحي بزفت الشوارع) يموّه الحدود الفاصلة بين الذكري والأنثوي، يموّه ولا يُميّع، باعتبار المشاركة الوجدانية في المأساة؛ لكن مع ذلك تحتفظ الأجساد بخصوصيتها الجمالية، فلا تذوب - ذَكرية وأنثوية - في بعضها البعض، أو تتلاشي جمالياتها الحسية لصالح هذا التحييد والمزاوجة الشعورية.
والأخيرة تحديداً، أعني الحفاظ على حظّ الأجساد الطبيعي في مفارقة الذكر للأنثى جمالياً، هو ما فات الفنان في أعماله السابقة، حين استعار جماليات التراث اليوناني الروماني وفنون عصر النهضة لتمثيل شخوصه الذكرية، فظهرت باستدارات أنثوية ناعمة لكن مفتولة العضلات.
وعلى ما يوحي به إبراز نوعية الأجساد في أعمال هذا المعرض، فإن توحيدها لجهة المشاعر التي تبديها، ينزع من أعمال الفنان بعضَ إيحاءاتٍ ذكوريةٍ كانت برزت في أعماله السابقة؛ حيث محمول الأعمال هنا لعموم الجنسين، على معنى القول المأثور "السيّئة تعمّ"، وإن كان لا سوءَ هنا ولا غيره، بل تشاركٌ في أحاسيسَ طاغيةٍ بالوحدة، وِحدةٍ يمكن رأبها بمصاحبة كلب على ما يصوّره أحد الأعمال المعروضة.
لكنْ هل نحتاج لنفهم هذا، اعتبارَ أشعار الروميّ - التي ألهمت الفنان - في حسباننا؟
إنّ فن الرسم - ورسم الأجساد بالخصوص - يتكلم بلا وساطة، إن صوته محفوظ داخل إطار اللوحة. غير أن هذا لا يعني انغلاق العمل على ذاته، بل إنه يمدّ خيطاً لمُشاهدِه، وعلى حسْب الرؤية يكون المعنى، ذلك أنها علاقة بين جسدين، جسد المشاهد في مقابل الجسد في اللوحة الفنية، الأول منهما زمني أي يتحرك في سياق من الدلالات الاجتماعية والثقافية؛ والثاني لا-زمني، وإن تحدد بإطار، بالمعنى الذي يتيحه انفلات حبل التفسير والتأويل على غارب الزمن.
ما تفعله أشعار الروميّ هنا هي أنها تشير إلى نقطة انطلاق، لكنها تُفسح الباب واسعاً لعديد المعاني، حتى مع معرفتنا بأن الفنان - متأثراً بجلال الدين الروميّ - يوصينا في بيانه الفني أن نعشق أنفسنا، وأن نعبر العالم (المادي/؟)؛ حيث من غير بيانه، ومن غير الروميّ حتى، تظل الأعمال ناطقة بلسانها وتقول ما يُغني (نفسها) بنفسها.
هذا عن الأجساد، فماذا عن الألوان الصارخة في الخلفية؟ ونقول صارخة حتى في وجود كثيف للأخضر الخافت، لأنها ذات درجة لونية واحدة حادة وصريحة؛ وقد استخدم فيها الفنان – كما في الأجساد – ألوان الأكريليك وأقلام الرسم الخشبية.
يلعب التناقض بين الألوان الخلفية الزاعقة في علاقتها بالدرجات اللونية الرمادية التي تمثّلها الأجساد على معنى العبور - الذي يشير إليه الفنان في عنوان معرضه - ما بين عالمَي الخارج والداخل، كما لو كان برزخاً؛ من هنا نرى الخطوط الأفقية الفاصلة بين تكاوين الأجساد وبين الأرضيات اللونية، لكنها خطوط مستقيمة تفرق بحدّةٍ بين العالمَيْن، على خلاف ما أنّ البرزخ حالة تأقيت وانتظار، وبهذا فإنها مساحة سؤال لا قفزٍ وعبورٍ مفاجئ، على ما تُعلّمنا الحياة/ الموت، أو - اتّباعاً للمنطوق الشعبيّ الحرّيف، بمعنى اللاذع - "تُعلّم علينا".