جماعة ولكن
في كلِّ مرةٍ تقع أعمال إرهابية، داعشية أو قاعدية، في صفوف المدنيين في الغرب، ينبري الكَتَبة، "جماعة ولكن"، لتبرير الجريمة. قد يستنكرون موت أبرياء لا ذنب لهم سوى وجودهم في مسرح الجريمة لحظة وقوعها، بيد أنهم سرعان ما يلحقون الاستنكار الخجول، الذي كأنه لم يكن، ليدفعوا في وجوهنا قائمةً بجرائم الغرب منذ الحروب الصليبية إلى يومنا هذا: صحيح أن هذا إرهابٌ، ولكنه إرهابٌ لا يقارن ألبتة بإرهاب الغرب المؤسسي، الدولتي. صحيح أن هذا الإرهاب يطاول مدنيين لا ذنب لهم، ولكن ماذا عن مدنيينا الذين يُقتلون بالآلاف تحت وابل طائراتهم وصواريخهم.
يملك "جماعة ولكن" قائمةً لا يتعثّرون في سردها. إنها جاهزة على لسانهم. لأنها هي الأساس، وليست كلمة الاستنكار التي يحتالون بها على قوانين الغرب الذي يقيمون بين ظهرانيه. لأنهم بدون كلمة الاستنكار، العابرة، يوضعون في خانة "ممجّدي الإرهاب" ومبرّريه، وهذه صارت في الغرب تهمةً يعاقب عليها القانون. لا بدَّ إذن من كلمة الاستنكار، ليبدأ بعدها استداركٌ يصبح متناً، والاستنكار هامشاً.
قائمتهم الطويلة، طول تاريخنا مع الغرب، صحيحة. ولكن، ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني التأبّد في ثنائية الأنا الضحية والآخر العدو. إنه يعني التأبّد في المواجهة التي تتعدّى المشروع الاستعماري لغرب المؤسسة والنظام إلى غرب الناس العاديين. بل ربما الناس الذين يتظاهرون في سبيل قضايانا أكثر مما نتظاهر نحن.
ماذا يعني لوك الكلام نفسه، وطمس آثار الجريمة واللعب في مسرحها، غير أن نكون شركاء في الجريمة نفسها، على الرغم من كلمة الاستنكار الفارغة التي لا تستر عورة عقمنا وفشلنا في المواجهة الحقيقية.
أولاً: هل صحيح، أصلاً، أن نردّ على الجريمة بجريمة؟ ثانياً: هل ستؤدي "ردود الفعل" الهمجية هذه التي تحتقر الحد الأدنى من الإنسانية إلى رد سهام الغرب إلى نحره؟ ثالثاً: هل هذا الإرهاب الموجَّه نحو التجمعات المدنية ومرابع الحياة العامة طريق الشعوب للتحرّر من الاستعمار، أو الإلحاق السياسي والاقتصادي؟ الجواب: كلا قاطعة. كلا وألف كلا. فالجريمة لا تعالَج بجريمة. ستكون هناك جريمة إضافية. ولن تؤدي هذه الأعمال، فاقدة الرشد والحس والمسؤولية، إلى إضعاف الغرب، فضلاً عن هزيمته، في بلادنا.
ليست هذه طريق الشعوب للتحرّر. لم تكن هكذا ولن تكون. والتاريخ أمامنا. أُذكِّر بما حدث عندنا في الأمس القريب. فقد اجترحنا أسطع نموذجٍ في مواجهة الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية بما يعرف بالربيع العربي، عندما دبَّت نيران جسد البوعزيزي في الفضاء العربي الذي جاء أوان حرق هشيمه. تلك هي الطريق. ولأنها الطريق التي لا يمكن أن يُنكرها علينا منكر. ولأنها طريق الشعوب، عندما تقرّر أخذ زمام نفسها بيدها. لأنها كذلك.. كان ينبغي أن تسدَّ بالجثث والدماء والدمار، بحيث يدب الرعب في قلوب الساعين إلى التغيير قبل غيرهم. فإذا كانت نتيجة التغيير، وثمار الربيع، هي هذه البرك من الدم، وهذه المدن التي قوُّضتْ على ساكنيها، وهذه الجموع البشرية الطافشة على وجهها في كل اتجاه، فلا كان التغيير، ولا كان الربيع!
ثم جاءت بعد عودة الاستبداد إلى سابق عهده، وتحويله محاولات التغيير إلى ما نراه اليوم من مشاهد في سورية والعراق واليمن وليبيا، موجة الإرهاب الراهنة المصنَّعة، جزئياً على الأقل، في أقبية النظام العربي، لتحوّل المعركة ضد نظم الحروب الأهلية إلى معركةٍ ضد الإرهاب الذي أنتجوه وضبطوا إيقاعه، وأطلقوه وحشاً كاسراً، يُنقِّل أحزمته الناسفة وسواطيره، حيث تُتاح له فرصة أو فجوة.
تجد أعمال الإرهاب التي تضرب مدن العالم العربي المنكوبة، قبل بعض المدن الأوروبية، من يتفهمها، بل من يراها "جهاداً" ضد "الكافر"، وليس ضد العدو. قتال هؤلاء الشبان الذين مسحت السلفية الدينية، ضيقة الأفق، أدمغتهم، ليس في سبيل وطنٍ ولا في مواجهة عدو، بل ضد "الكفر" وأهله. الغريب أن هؤلاء الذين يفجِّرون أجسادهم، أو يُلقى القبض عليهم، لا يتوافرون، كما يبدو، على حدٍّ أدنى من المعرفة الدينية. في جيوبهم فتوى، مثل صكوك الغفران، بموقعهم في الجنة.