كم من الجرائم المعمارية والتاريخية تُرتكب باسم ضرورات الحياة الحديثة في المدن؟ في القاهرة - وفي غيرها من المدن المصرية والعربية - يحضر هذا السؤال بمناسبة وبغير مناسبة، فأشكال الجرائم المعمارية والتاريخية كثيرة، بدءاً من الإهمال، إلى الاندثار، وصولاً إلى الهدم المتعمّد باسم هذه المصلحة الراهنة أو تلك.
يثار هذا السؤال اليوم بقوة في مصر، مع تناقل صور ومقاطع فيديو لعمليات هدم بالجرّافات لمقابر في منطقة صحراء المماليك، شرقي القاهرة، بهدف تمرير طريق أسفلتي ضمن مشروع يحمل اسم "محور الفردوس". هكذا يقتحم "الفردوس" سكينة الموتى في قبور تاريخية يصل عُمر بعضها إلى عدّة قرون، وهذا هو الوجه الأكثر إشكالية في الموضوع، فبعض الأضرحة تضمّ رفات شخصيات تاريخية من رجال دولة ومؤرّخين وكُتّاب ومتصوّفة، فضلاً عن قيمتها المعمارية التاريخية.
المقابر ليست مجرّد أماكن، إنها علامات لعلاقة الناس بالمكان كله
بعد سنوات، قد يذهب أحد الباحثين لتوثيق سيرة شخصية ما، فلا يجد إلا الأسفلت الذي تعبره السيارات. هذا الباحث الذي سيأتي بعد سنوات سيوقظ الدولة على جريمة اقترفتها دون أن يرفّ جفن للمشرفين عليها. وذلك ما حدث منذ قرابة عشرين سنة، وقت أن جرى التفطّن إلى أن ضريح ابن خلدون قد ضاع بسبب أشغال توسعة الطريق أمام "باب النصر"، ومن سوء حظ صاحب "المقدّمة" أن ضريحه كان غير بعيد عن جدار المقبرة.
مقابل حملات الاحتجاج التي ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي، بدا تبرير المسؤولين بارداً، بل هو أقرب إلى الإنكار، فالمقابر التي يمكن معاينة قِدمها التاريخي بالعين المجرّدة لا تدخل بحسب المسؤولين ضمن الآثار، وكأن تصنيف معلم بـ"الأثري" من عدمه، هو وثيقة تقدّمها مصلحة في إدارة.
مقابل حملات الاحتجاج، يأتي تبرير المسؤولين بارداً وأقرب للإنكار
رداً على حملة الاعتراض، أصدر رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية في وزارة السياحة والآثار المصرية، أسامة طلعت، بياناً جاء فيه: "إن محور الفردوس (المروري) بعيد عن الآثار الإسلامية المسجلة بقرافة المماليك"، مؤكداً أنه "لم يتم هدم أي أثر، والمقابر الموجودة بالصور المنشورة هي مبانٍ غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية، وهي مقابر حديثة وخاصة بأفراد".
حتى هذه النقطة (مقابر حديثة وخاصة بأفراد) التي يستند إليها الخطاب الرسمي لا يمكن أن تكون حجّة، فالمقابر ليست مجرّد أماكن، إنها علامات لعلاقة الناس بالمكان كله، وهي التي تمدّهم بعمق زمني يتحسّسونه وهم يزورون قبور آبائهم وأجدادهم.
ثمّ أي معنى لما يدرسه المعماريون والمهندسون ومخطّطو المدن إذا لم يكونوا قادرين على توفير حلول توائم في ذات الوقت بين ضرورات الحاضر والحفاظ على الذاكرة؟
يبدو ذلك بعيداً عن أسماع أصمّتها جلبة الجرّافات وهي تدوس التاريخ من أجل حلّ "أزمة مرورية". طالما جرى الحديث عن لعنة النبش في القبور الفرعونية في القرن التاسع عشر وإزعاج سكينة الموتى، ربما جاء الوقت لننتظر ما سيحدث لمخرّبي القبور المملوكية!