حين يضع أحدُنا أمامه مؤلفات الكاتب المصري الراحل الثلاثاء الماضي، جلال أمين (1935 - 2018)، سينتبه إلى إمكانية تصنيفها إلى مجموعات؛ في الأولى يمكن أن نضع أعمالاً ضمن اختصاصه في الاقتصاد، مثل "قصة الاقتصاد المصري"، و"كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية"، و"فلسفة علم الاقتصاد"، و"قصة ديون مصر الخارجية"، وهي أعمال لا تتشبّث بالنظريات والأرقام - على غير عادة المؤلفات الاقتصادية - بل سرعان ما تذوّب كل ذلك في مقولات بسيطة تفهمها شرائح القرّاء على تنوّعها.
وفي مجموعة ثانية، لعلنا نضع أبرز أعماله "ماذا حدث للمصريين؟"، وإلى جانبه "ماذا حدث للثورة المصرية؟"، و"وصف مصر في نهاية القرن العشرين"، وهي أعمال أشبه بموسوعات وإن لم تتخذ هيكلتَها ولا تصرّح بأنها كذلك.
أعمال عابرة للتخصّص بامتياز، تستند إلى علم الاقتصاد بلا شك ولكنها أيضاً ترتكز على القراءة التاريخية ومواضعاتها، وتتفرّع في مسالك الثقافة والأدب والفن، والتحوّلات الاجتماعية التي يفرضها الإعلام والتكنولوجيا، وهي إلى ذلك أعمال ذات جماليات أسلوبية لا تُنكَر، من خيارات العنوَنة إلى سلاسة جملها وانتقاء مفرداتها.
وفي مجموعة أخرى، لنا أن نضع أعمال السيرة الذاتية مثل "ماذا علمتني الحياة؟"، و"رحيق العمر"، و"مكتوب على الجبين". أعمال حين نصفّها جنباً إلى جنب ربما نتساءل: لماذا وضع أمين أكثر من سيرة؟ علماً أنها لا تتكامل؛ حيث لا يبدأ العمل الموالي من حيث ينتهي الذي سبقه، في تجربة عجيبة في إعادة كتابة السيرة الذاتية بطريقة أخرى.
ولعل هذا التراكم يشير إلى تأمّل في الحياة صاحَب المؤلف على الأقل خلال العقدين الأخيرين من حياته، ونحن إذ نعود إلى المجموعة الثانية التي أشرنا إليها قد نجد فيها هذا البعد التأمّلي نفسه، فكأنها كتب سيرة جماعية تقابل مجموعة الكتب السيَرذاتية.
مع هذه المجموعات الكبرى، توجد مجموعات صغرى، مثل عمليه: "شخصيات لها تاريخ"، و"كتب لها تاريخ" في تناظر لطيف بينهما، حيث تظهر الشخصيات والكتب كمرايا يتخذها أمين ليقول بعض ما في نفسه. وهناك فئة أعمال جعل منها نظرات استشرافية، مثل "مستقبليات"، و"العالم في 2050".
وبعد ذلك، تبقى كتب كثيرة خارج كلّ تصنيف لا تشير إلا إلى تعدّد مشاغل أمين وتراكمها في شكل طبقات داخل وعيه كمؤلف، من ذلك: "التنوير الزائف"، و"خرافة التقدم والتخلف"، و"عصر التشهير بالعرب والمسلمين"، و"الدولة الرخوة في مصر"، و"عصر الجماهير الغفيرة"، و"المثقفون العرب وإسرائيل"، و"محنة الدنيا والدين في مصر"، و"عولمة القهر"، و"مصر في مفترق الطرق"، وآخر ما صدر له "تجديد جورج أورويل أو ماذا حدث للعالم منذ 1950؟".
تشبه تركيبة المؤلفات هذه نصاً محبوكاً، بتسلسل سردي - فكري له منطقه، وله أيضاً استثناءاته وتشعباته خارج المتوقّع. هكذا نشعر مع مؤلفات جلال أمين بأثرٍ لهندسة، عفوية كانت أم مدروسة، تميّز مدونته، فيها تنويع بين التخصّصات وتلاحم بينها، وفيها انتقال بين الأجناس في خيارات تلائم ما يريد قوله في كل مرة، أما قاسمها المشترك فهو أسلوب مبسّط محبّب غير منكمش في التنظير والتحليل، ولا يتخذ من استعلاء المتخصّصين منهجاً، فيصل دائماً إلى ما هو جوهري بأيسر السبل، مبلّغاً عما في ذهنه، ومنشغلاً بما يريد الناسُ فهمه، وتلك في الأصل إضافة المثقف لأهل زمانه، حيث يقدّم لبنته في بناء وعيهم أو اقتناص ما هو مستعص على المسك.
لو أننا فككّنا هذه المؤلفات ربما وجدنا نواتها إتقان كتابة المقالة، باعتبارها نصاً يؤدّي فكرة، وهو تمرين حرص عليه أمين في مختلف سنوات حياته. حين تكون هذه النواة متينة، تظهر المؤلفات لاحقاً كعملية مدّ جسور بين مقالات، وهذا هو حال كتاب "ماذا حدث للمصريين" أو "التنوير الزائف"، فهما عبارة عن مجموعة مَخيطة بعناية.
لعل التصنيف الأجناسي الأقرب لكتابات جلال أمين، هو "المحاولة" Essay، وهو جنس شهير في الغرب لم يجر تأصيله عربياً، وقد كان مؤسّسه الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتاني (القرن السادس عشر)، هو الآخر يكتب المقالة قبل تنظيره للمحاولة كشكل يتوسّع ويكثّف الكتابة الفكرية.
يرى المشتغلون في "نظرية الأجناس" أن المحاولة هي اليوم جنس الكتابة الرابع بعد الرواية والشعر والمسرح، وكثيراً ما يُطلق عليها اسم "أدب الأفكار"، وهذه التسمية لعلّها الأدق حين نعود إلى مدوّنة جلال أمين، علماً أن منظّري المحاولة لا يستثنون ضمنها السيرة الذاتية.
ينطبق تعريف المحاولة على كتاب "ماذا حدث للمصريين؟"، فهو في الأصل مجموعة مقالات تتناول مظاهر من حياة المصريين وتمسك بالخيط التاريخي لتبيُّن التغيّرات الخفيفة التي تصبح بعد فترة، وبشكل غامض، تحوّلات حاسمة وملموسة. بلغة جمعت بين العمق والانطباعية، مع لمسة من السخرية اللذيذة، كان أمين يرسم هذه التحولات بقفزات رشيقة. أحياناً نشعر أننا مع مجموعة تدخلات جراحية تعرف كيف تصل مباشرة إلى موطن الداء دون العبث بالجسد/ التاريخ كله.
حين يعود أمين إلى صيغة العنوان نفسها في "ماذا حدث للثورة المصرية؟"، نقف مرة أخرى على لمسات أسلوبية، داخل جنس المحاولة، من خلال ترتيب مخصوص للأفكار والأحداث، من "دواعي الثورة" إلى "آفاق المستقبل"، مروراً بـ"دواعي الأمل" و"دواعي القلق"، وبين هذا وذاك يحدّثنا عن "تمليك ما لا يُملّك"، و"توريث ما لا يورّث"، و"بيع ما لا يباع"، وعن "وطنية زائفة"، وعن "ألغاز الثورة المصرية".
رغم الاختلاف الأجناسي، يمكن أن نقارن بين "ماذا حدث للمصريين" وثلاثية نجيب محفوظ من زاوية أن كليهما حمل هاجس رصد التحوّلات المصرية، سواء من خلال أفراد أسرة عبد الجواد لدى محفوظ، أو بالتقاط ميادين تظهر فيها انتقالات السياسات والسلوكات كما في كتاب أمين الذي يبدأ تقريباً من حيث ينتهي محفوظ. وقد يكفي هذان العملان كي نقرأ - في كتابين لا غير - كل تاريخ مصر الاجتماعي في القرن العشرين.
انتقاءات لافتة للمصطلحات نجدها أيضاً في كتاب "قصة الاقتصاد المصري.. من عهد محمد علي إلى عهد مبارك"، فينتقل بنا من حديث عن "تنمية بلا ديون" إلى "ديون بلا تنمية". وفي "وصف مصر في نهاية القرن العشرين"، يأخذنا في نزهة من "رمضان في عصر الانفتاح" إلى "عصر تحريم الحلال"، في كناية عن تدهور القدرة الشرائية، وما إلى ذلك مما يمكن أن نسمّيه ببلاغة عالم الاقتصاد، كما في عبارات له من قبيل "لو كان التضخّم رجلاً" أو "دليل الرجل الذكي لبيع القطاع العام".
من وراء الأثر الذي تركه جلال أمين، يمكن أن نقف على صنعته في التأليف؛ قوامُها نظرٌ بعيد في الأشياء ومآلاتها، ثم تحويلها من مواقف وأحداث وأفكار مبعثرة في الأذهان وفي الحياة إلى عمل موحّد ممنهج مكتوب بعناية مؤلّف موسيقي كثيراً ما يطربنا بمقدرة الخروج من كل ذلك التشعّب والتداخل بعِبرة أو بحكمة.
مع الثورة ومع الانقلاب!
دعم جلال أمين ثورة 25 يناير بلا تردّد، لكنه أثار استغراب الكثيرين حين وقف مع الانقلاب في 2013 وهو الذي كان معارضاً لسياسات زمن السادات ومبارك، في حين أن النظام الحالي مجرّد امتداد مشوه لهما. كان صاحب "ماذ حدث للمصريين" في 2013 جزءاً من جيل يساري مصري انهمك في التنظير لقضايا أساسية مثل العدالة الاجتماعية والحريات السياسية ولكنه تفاجأ من لحظة الفعل التاريخي ولم يخط الخطوات العملية لتحقيق شعاراته.