"لو كانت هناك طرقات تربط ضفاف قسنطينة ببعضها بعضاً، بدلاً من هذه الجسور الشاهقة، لسلكتها مهما كانت طويلة وشاقة". هذه عبارة فتاة كانت تهم بقطع جسر "سيدي مسيد" الذي شيدته فرنسا عام 1912 على ارتفاع 175 متراً وبطول 168 متراً، ويربط وسط المدينة بالمستشفى الجامعي. على الجسر، كانت تمنع عينيها من النظر يميناً أو شمالاً، حتى لا تفقد توازنها. تتوقف بعد بضع خطوات، كأنها تراجع خيار العبور، ثم تتابع.
أشهر جسور قسنطينة، بالإضافة إلى جسر سيدي مسيد المعروف بقنطرة الحبال، لأنه مشدود بحبال مفتولة من الحديد، هو جسر سيدي راشد بعلو 105 أمتار وطول 447 متراً. ثم جسر ملاح سليمان المخصص للراجلين فقط، ويربط وسط المدينة بمحطة القطار شرقاً بطول 125 متراً. وجسر القنطرة الذي شيّد في العهد العثماني، ثم أعاد الفرنسيون تشييده من جديد عام 1863. ويبقى جسر صالح باي الوحيد الذي أنجز في ظل الاستقلال الوطني بطول 800 متر.
على الرغم من حالة الإتقان والجمال التي تتميز بها هذه الجسور المعلقة في عاصمة الشرق الجزائري، ودورها الحاسم في الربط ما بين مفاصلها، إلاّ أنها لا تحضر في مخيلة ساكنيها وزائريها والسامعين بها، إلا بوصفها محطاتٍ للانتحار، بالنظر إلى عشرات الحالات التي عرفتها.
يتحدث الإعلامي، أمين حجاج، لـ"العربي الجديد" عن صباه الذي ترافق بسماع صيحات المنتحرات والمنتحرين، بحكم قرب بيت أهله من جسري سيدي راشد وجسر الشيطان. يقول: "ما زال صدى تلك الصيحات يتردد في أذني حتى اليوم، خصوصاً تلك التي تحدث فجراً. كنت أقصد الجسر عشية، لأتخيل ملامح صاحب الصيحة التي سمعتها". يتابع حجاج، إنه كان ينزل مع أترابه للعب كرة القدم، في الملعب الموجود أسفل الجسر المعروف بـ"الرميس"، فيصادفون عظاماً وجماجم منتحرين لم ينتبه إليهم أحد. يقول: "لا أستطيع أن أنسى مشهداً لجمجمة كانت ترقص في ملتقى مياه النهر، حيث شكلت هويتها سؤالاً مدوخاً لنا نحن الأطفال".
بحسب حجاج فإنّ فرص النجاة من أعلى جسر سيدي راشد هي الأكبر، كما حدث لكهل مع مطلع شهر رمضان. لذلك فإن الوجهة المفضلة للمنتحرين المصممين، هي جسر سيدي مسيد المعروف لدى الأهالي بجسر المستشفى، حيث لا يمكن لمنتحر أن ينجو: "هو الجسر الذي شهد انتحار الشاعر فاروق سميرة عام 1994".
اقرأ أيضاً: رأس سنة الأمازيغ
في "شارع فرنسا" القريب من الجسر، قصة ترددها ألسنة كثيرة، وتثير كثيراً من الأسئلة. هي عن عجوز ألقت بنفسها من أعلى الجسر، لكنها وصلت إلى أسفله سالمة، لأنها كانت ترتدي الملاءة القسنطينية التي امتلأت بالهواء، ولعبت معها دور المنطاد.
في الشارع نفسه، يملك عبدالمجيد، وهو أب لثلاثة أطفال (42 عاماً) محلاً للذهب. يقال إنّه حاول الانتحار قبل عشرين عاماً. يقول لـ"العربي الجديد": "كان ذلك عام 1996، وهو العام الذي ذبح فيه الإرهابيون والدي الشرطي عند عتبة البيت. لقد بقي دمه لصيقاً بالجدار أسابيع عدة، ولم أستوعب الأمر فقررت أن أستفيد من وجود الجسر بالجوار، وأضع حداً لحياتي. لا أستطيع أن أعبّر لكم عن قساوة تلك اللحظات التي قطعت فيها نصف الجسر، وهممت باعتلاء الحاجز الحديدي. وحتى أتغلب على خوفي وترددي، فقد أطلقت صرخة عالية جداً، وهي الحركة التي لفتت انتباه صاحب سيارة كانت عابرة، فنزل مسرعاً وتشبّث برجلي".
يقول إنه يشعر بالسخط من نفسه، كلما تذكر تلك التجربة اليوم. وهو يدعو كلّ من يفكر فيها، إلى النظر بعين المتفائل لما ينتظره من لحظات جميلة في المستقبل: "كنت يومها وحيداً وها أنا محاط بثلاثة أبناء، وكنت فقيراً وها أنا أشرف على محل للذهب، الانتحار ليس حلاًّ".
أعلى المستشفى الجامعي، عند قوس النصر الذي شيدته فرنسا عام 1934 تكريماً لأرواح من سقطوا في الحرب العالمية الأولى، يتحدث علي. م، وهو أحد العسكريين التابعين للثكنة المطلة على الجسر. يقول لـ"العربي الجديد" إنه لم يعد يسمع بانتحارات في الآونة الأخيرة، والدليل أنّ الجسر الجديد لم يعرف إلاّ انتحاراً واحداً منذ تدشينه قبل عام. يعيد ذلك بحسب دراسة أمنية، كان من المشرفين عليها، إلى زوال دواعي الخوف واليأس التي خلقتها مرحلة العنف والإرهاب في التسعينيات، وظاهرة الهجرة غير الشرعية التي شكلت بديلاً من الانتحار لدى الشباب، وتوسع هامش الحوار في الأسرة والشارع الجزائريين. يعبّر عن استغرابه من افتقاد المدينة التي تملك كلّ هذه الجسور المغرية بالانتحار، إلى مرافق تتوفر على عيادات نفسية ترافق الشباب، وتسمع مشاكلهم وهواجسهم.
اقرأ أيضاً: شارع محرّم على نساء الجزائر