بعد انقضاء أكثر من عشرين يوماً على انفجار مرفأ بيروت، لا تزال أعداد الضحايا والجرحى والمفقودين غير نهائية. إذ كشفت وزارة الصحة العامّة في لبنان لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحصيلة شبه النهائية لأعداد المصابين بلغت 6,941، بينهم 184 فارقوا الحياة ومرشّح أن يتجاوز العدد 190 ضحية، بعد التأكّد من بعض الأسماء. أمّا الجرحى فتوزّعوا بين 5,811 دخلوا وخرجوا من الطوارئ، 1001 جريح دخلوا المستشفى و129 دخلوا العناية الفائقة، غير أنّ هذه الأعداد تبقى شبه نهائية، بانتظار تسليم عدد من المستشفيات لوائحها المفصّلة.
وفي حين لا تملك وزارة الصحة أعداد المفقودين، باعتبار أنّ الأجهزة الأمنية تتولّى هذه المسألة، لا تمتلك الدولة اللبنانية كذلك أيّ إحصاء لغاية تاريخه حول عدد الذين تعرّضوا لحالات تشوّه أو أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصّة، سواء لناحية ما تسبّب به الانفجار من إعاقاتٍ حركية أو سمعية أو بصرية أو غيرها من الإعاقات الذهنية والحالات الحرجة، التي ستجعل من تاريخ 4 أغسطس/آب 2020، ذكرى مأساوية ترافقهم مدى العمر.
الوجع واحد وإن تعدّدت أوجه الإصابة والمعاناة، وإن اختلفت جنسيات المصابين أو فئاتهم العمرية وشرائحهم الاجتماعية. أمّا الألم الأعمق ففي نفوس المصابين وقلوبهم، وهم الذين سيحملون نكبة بيروت على كرسيّهم المتحرّك أو مع أطرافهم الاصطناعيّة أو حتّى وشماً يحفر التاريخ المشؤوم على وجوههم وأجسادهم.
وزارة الصحة: لا يمكننا تحمّل الأعباء وحدنا
يؤكّد المدير العام لوزارة الصحة العامّة فادي سنان، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أنّ "وزارة الصحة ستتكفّل بعلاج كل جرحى الانفجار الذين لا يملكون أيّ جهة ضامنة أخرى، إذ لا يمكننا بموازنة محدّدة أن نتكفّل بعلاج كلّ الشعب اللبناني، فهناك الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونيّة موظّفي الدولة، وصناديق الجيش والأمن العام وقوى الأمن الداخلي وشركات التأمين، وعلى كلّ جهة ضامنة أن تتحمّل مسؤوليّاتها، حيث لا يمكن لوزارة الصحة أن تتحمّل وحدها الأعباء كافّة". يضيف: "منذ لحظة وقوع الانفجار، أوعزنا إلى المستشفيات كافّة باستقبال ومعالجة كلّ الجرحى على نفقة وزارة الصحة، في ما يتعلّق بالنواحي الإغاثية، باعتبارنا أم الصبي، غير أنّ الوضع الاستثنائي اليوم يحتّم على الجهات الضامنة تحمّل مسؤوليّاتها في معالجة الجرحى أو في عمليات التجميل أو زرع قرنية العين أو ترميم الجلد والأسنان، وغيرها من العمليات الجراحية والعلاجات اللاّحقة". ويكشف سنان عن "اجتماعات دوريّة تعقدها الهيئة العليا للإغاثة، تستهدف الجهات الضامنة كافّة، بهدف توزيع المسؤوليّات وصياغة الموازنة المطلوبة، وتحديد الجهة التي ستتكفّل بكل علاج وحالة، من منطلق أنّ الدولة اللبنانية ستتكفّل 100 في المائة بكلّ ما له علاقة مباشرة بالانفجار، حاليّاً ولاحقاً، ولن تترك مصاباً من دون علاج".
وزارة الصحة ستتكفّل بعلاج جرحى الانفجار الذين لا يملكون أيّ جهة ضامنة
"يونيسف": نحتاج إلى 46.7 مليون دولار للاستجابة الفورية
من جهتها، تكشف رئيسة برنامج الصحة لدى منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، جينيفياف بيجكويان، لـ"العربي الجديد"، أنّه "سُجّل حتّى تاريخ كتابة التقرير وفاة أربعة أطفال على الأقل جرّاء الانفجار، ودخول 31 طفلاً إلى المستشفى لتلقّي العلاج. كما أُفيد عن إصابة نحو ألف طفل من بين عدد المصابين، وتضرّر ما يُقدّر بنحو مائة ألف طفل".
وإذ تلفت إلى أنّه "لا وجود لتقدير نهائي لغاية تاريخه حول عدد حالات التشوّه والإعاقات التي أصابت الأطفال"، تشير إلى أنّ "حالات الإعاقة تختلف بين إعاقات جسدية بالغة (كسور في الساقين أو الذراعين، عمليّات بتر)، مروراً بالإعاقات الحسّية (من فقدان البصر إلى فقدان السمع)، وصولاً إلى الاضطراب النفسي ما بعد الصدمة".
وردّاً على سؤال حول الجهة التي ستدعم نفقات العمليات الجراحية والتجميلية وكلفة العلاجات اللاّحقة، تجيب بيجكويان: "لقد أطلقنا في الواقع نداءً لجمع التبرّعات والتمويل، إذ إنّ يونيسف بحاجة إلى مبلغٍ قدره 46.7 مليون دولار أميركي، من أجل الاستجابة العاجلة للحاجات الفورية للأطفال والعائلات المتضرّرة على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة". وتضيف: "تتمحور الاستجابة حول الحفاظ على سلامة الأطفال؛ إعادة تأهيل وتوفير الخدمات الحيويّة الأساسية؛ تمكين الشباب واليافعين من المهارات اللازمة التي تخوّلهم أن يكونوا جزءاً من الجهود المبذولة لإعادة بناء بلدهم - كلّ ذلك بالتوازي مع حرصنا على الحدّ من انتشار فيروس كورونا".
جراح يارا
شاء القدر أن يتحوّل وجه يارا السعيد البريء، ابنة الأربع سنوات، إلى خطوطٍ وجروحٍ تروي وجع بيروت وتجسّد حكاية أليمة. فتاريخ 4 أغسطس/ آب لا يفارق محيّاها، حيث تسبّب الانفجار بهبوط آلةٍ حادّة استقرّت على وجهها وعنقها، لدى محاولة جارهم حمايتها بإدخالها صالون الحلاقة الخاص به، بعد أن كانت يارا تتفقّد أمّها التي ذهبت لتسديد الحساب لدى أحد المحال المجاورة.
يتحسّر وليد، والد يارا، على ما أصاب طفلته من "تشوّهات نأمل ألا ترافقها طيلة حياتها"، كاشفاً لـ"العربي الجديد" أنّها "خضعت بدايةً لعملية تضميد وخياطة سريعة لجراحها، قبل أن يتبرّع لاحقاً أحد الجرّاحين بغرزٍ تجميليّة، ومؤخراً تعهّد أحد أطباء التجميل بإجراء عملية تجميلية لوجهها وبمعالجة أعصاب الفك الذي انحرف قليلاً".
وليد، الذي يعمل سائقا لدى إحدى شركات توزيع الأدوية، يقول: "كأنّه لا يكفينا ما نعانيه كغيرنا من ضائقة اقتصادية واجتماعية، فراتبي بالكاد يسدّ حاجات عائلتي، حتّى طاول الانفجار ابنتي الصغيرة، أمام منزلنا في منطقة الكرنتينا – المدوّر"، مشيراً إلى أنّ "الانفجار جعل يارا وعلى مدى 3 أيام متتالية، عاجزة عن النهوض والمشي أو حتّى عن تناول الطعام". يارا المتعلّقة بشقيقها خالد الذي يكبرها بسنة واحدة فقط، يختصر والدها الكلام عنها بالقول: "يارا قوية وأكبر من عمرها". ولعلّ الطفلة التي انتشرت صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ورسمها العديد من الفنّانين، جسّدت بوجهها جرح وطنٍ وشعبٍ، لا سيّما بعد أن حوّل الرسّامون آثار الانفجار على وجهها إلى ما يشبه خريطة لبنان.
عين سما
من جهتها، لم تكن سما الحمد، ابنة الخمس سنوات، تدرك أنّ طفولتها التي وُلدت تحت سماء سورية وترعرت تحت سماء لبنان، ستصبح يوماً ما ذكرى للحظاتٍ جميلة كانت ترى فيها بيروت بعينين بريئتين، فقدت إحداهما نتيجة الانفجار.
بحرقةٍ يروي والدها، مكحول محمد الحمد، كيف أنّ زوجته احتضنت سما لحظة وقوع الانفجار، حيث كانتا تجلسان في صالون منزلهما في منطقة الجمّيزة، غير أنّ ذلك لم يحم ابنتهما الصغرى. ويقول: "هرع الجيران إلى إسعاف سما التي خضعتْ لعمليّة جراحية، بينما كنتُ حينها على بُعد خطواتٍ من المنزل، أقوم بإسعاف ابن عمّي الذي أُصيب بدوره إصاباتٍ بالغة وبات بين الحياة والموت". ويتابع: "راجعنا طبيبة سما منذ أيّام ورجّحت احتمال اللجوء إلى زرع عينٍ اصطناعيّة، غير أنّ أملي بالله كبير وسأسعى كي يعاينها أكثر من طبيب قبل أن تخسر عينها تماماً، وحبّذا لو كنتُ أستطيع إرسالها إلى الخارج لتتلقّى العلاج المناسب".
مكحول، الأب لأربعة أولاد، والمقيم في لبنان منذ 25 عاماً، جاء بعائلته من منبج في ريف حلب إلى لبنان عام 2016، علّه يقيها شرّ الأحداث الدائرة هناك، "كان كل همّي أن تعيش أسرتي بسلامٍ وأمان، وأن ينعم أولادي كغيرهم بفرصٍ تعليميّة لائقة، فنحن لا نملك المال ولا القصور لنورثّها لأبنائنا". يختصر شخصية ابنته بالقول: "سما جريئة وقوية جداً، ذكاؤها خارق، طيّبة القلب، تعشق السلام والطمأنينة وتكره العنف، وهي التي كانت تدافع عن إخوتها في حال حاولتُ توبيخهم، وهم الذين كانوا يلجأون إليها لتنقل طلباتهم إليّ، كونهم يدركون أنّني لا أرفض لها طلباً". ويضيف: "عوض أن نرفع معنوياتها، تقوم هي بذلك، فتجدها تقول لوالدتها: لا تبكي، أنا بخير".
تردّد سما لـ"العربي الجديد" بضع كلماتٍ تعبّر عن أحلامٍ تخطّت عالم الطفولة، "بدّي إتعلّم وصير دكتورة، حتّى أعطي الدواء ويروح الوجع". ابنة السنوات الخمس تتحدّث أيضاً عن حبّها للبنان، قائلةً: "أريد البقاء هنا، أريد اللّعب مع الأطفال"، مستعيدةً ما كانت تهتف به سابقاً مع أبناء الجيران "ثورة، ثورة، ثورة"، لتختزل بذلك طمأنينة يتوق إليها أطفال لبنان وسورية.