في الانتفاضة الأخيرة أو الهبّة، مثلما يُطلق عليها البعض، كثيرون هم الشباب الفلسطينيون الذين أصيبوا أو قتلوا في المواجهات، التي اندلعت بينهم وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي. هذا هو واقع المصابين.
آخر ما شاهدتاه عينا محمد قبل أن يغمضهما، كان حجراً يصيب خوذة جندي إسرائيلي اعتاد في الهبّة الجارية، أو التي تسمّى أيضاً انتفاضة "السكاكين"، قنص الجزء الأسفل من أجساد المنتفضين ليقتل أو يتسبب بعجز جسدي للمستهدَف يلازمه طوال حياته. وأحياناً، قد تخترق رصاصاته التي يطلقها، أجزاء أخرى من أجساد هؤلاء الثائرين.
واللافت أن تقارير طبيّة صادرة عن مستشفيات الاحتلال الإسرائيلي العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، توثّق الإصابات على خطوط التماس مع العدو الإسرائيلي. هناك، يتعرّض الفلسطينيون للضرب والاعتقال قبل أن يُعالجوا في تلك المستشفيات، ليعاد نقل بعضهم للتحقيق مجدداً. كأنما بذلك يصح المثل الشعبي القائل: "اقتل القتيل وامشِ في جنازته". أما الذين يُطلق سراحهم، فهم يحوّلون إلى المستشفيات الفلسطينية لاستكمال علاجهم فيها. ويُطرح سؤال حول كيفية تمكّن المستشفيات الفلسطينية من استيعاب كلّ الجرحى في ظل تزايد العدوان الإسرائيلي، لا سيّما وأن نحو ألف إصابة بالرصاص الحيّ سجّلت أخيراً، من بينها سبعمائة إصابة موجّهة إلى الجزء الأسفل من أجساد الشباب المنتفضين.
34 ثانية
لم يتطلّب الأمر أكثر من 34 ثانية، كي تعتدي القوات الإسرائيلية الخاصة، "المستعربون"، على الشاب محمد عثمان زيادة (19 عاماً) من قرية بيتللو (شمال غرب رام الله) في أثناء وجوده بالقرب من حاجز مستوطنة بيت إيل، شمال شرق مدينة البيرة. في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، انضم محمد إلى قائمة جرحى العدوان بعدما أصبح يعاني من شلل نصفي في الجهة اليمنى من جسده، نتيجة إصابته برصاصة في الرأس، بحسب ما يؤكد الاختصاصي في مجمّع فلسطين الطبي في مدينة رام الله، مراد كراجة.
ويوضح كراجة لـ "العربي الجديد" أن "حالة محمد مستقرة، وهو لا يتطلب أي عمليات جراحية في الدماغ. كلّ ما يحتاجه هو علاج فيزيائي طبيعي. وهذا العلاج متوفّر فقط في الجمعية العربية للتأهيل في بيت لحم".
وكان التقرير الطبي الصادر عن مستشفى هداسا غير كارم في مدينة القدس المحتلة، قد أكد أن محمد يعاني من تهتّك في أنسجة العظام إلى جانب نزيف في الدماغ. وبعدما سُحب الدم ورمّمت المنطقة المصابة، ظهرت إصابته بالشلل في الجهة اليمنى من جسده. أما اليوم، فهو يرقد في مستشفى رام الله الحكومي، وينتظر التحويلة الطبية لمتابعة العلاج خارج فلسطين، إذ إن والدته رفضت قرار وزارة الصحة القاضي بتحويله إلى الجمعية العربية في بيت جالا. تقول: "محمد في حاجة إلى علاج كامل للأعصاب، وهذا غير متوفّر في الجمعية العربية في بيت جالا ولا في بلادنا". تضيف: "محمد اليوم في مستشفى رام الله الحكومي، ولم يخضع بعد لأي علاج طبيعي".
ليس فأر تجارب
"أعالجه على دوّار المنارة ولا أقبل أن يتعالج في مستشفى التأهيل في بيت جالا". هذا ما يشدّد عليه شقيق محمد الأكبر حسين زيادة، من أمام مجمّع فلسطين الطبي. يضيف: "محمد ليس فأر تجارب". ويخبر بحرقة، "دخلت الممرضة إلى غرفة محمد وراحت تتحدّث عن نسبة نجاح العلاج التي تتراوح ما بين عشرين وأربعين في المائة. هل هذه حزّورة؟".
تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العربية للتأهيل في مدينة بيت جالا (شمال غرب بيت لحم) هي الجمعية الوحيدة في فلسطين التي تقوم بتأهيل المرضى وعلاجهم بشكل طبيعي ومتكامل وظيفياً، وعلى صعيدَي البصر والنطق. ويوضح منسّق قسم التأهيل في الجمعية خالد العيسة لـ "العربي الجديد" أن "وجود مريض واحد يحتاج إلى العلاج في قسم التأهيل ليس بالأمر البسيط. هو يتطلّب خمسين معالجاً. وبالنسبة إلى الجريح محمد، نحن لم نتعرف بعد على حالته ولم نتمكّن من الوصول إلى ذويه. كلّ ما تبلّغناه من وزارة الصحة هو أنها حوّلته إلينا. ونحن في انتظار وصوله".
لكن السؤال يُطرح: "هل محمد زيادة الراقد في مستشفى رام الله الحكومي جاهز لتلقي العلاج في بيت جالا، لا سيّما أنه يعاني من فقدان مؤقت للوعي؟".
ليسوا في حاجة إلى تحويلات
في السياق نفسه، يؤكد المدير الإداري للبعثة الطبية في وزارة الصحة أسامة النجار لـ "العربي الجديد"، أنه "لغاية هذه اللحظة، لم نمنح أي جريح في الانتفاضة الحالية تحويلة طبية إلى المستشفيات الإسرائيلية". ويشير إلى أن جرحى الانتفاضة الحالية ليسوا في حاجة إلى تحويلات من هذا النوع، ولا إلى خارج فلسطين، "فالمستشفيات الفلسطينية الحكومية والخاصة تملك قدرة استيعابية كبيرة لمعالجة الجرحى على الرغم من تزايد أعدادهم".
يضيف أن "الجرحى الذين تعالجوا في المستشفيات الإسرائيلية، كانوا قد اعتقلوا من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي بعدما تعرّضوا للإصابة وقد حصلوا على العلاج لاحقاً. وقد أفرج عن أكثرهم في ما بعد. لكن، تبقى بعض الحالات التي تستدعي استكمال علاجها في الداخل، وعلى سبيل المثال المصاب خالد العطياني من مدينة نابلس. هو يرقد اليوم في مستشفى رابين بلنسون الإسرائيلي، بعدما أصيب برصاصة في الرأس، الأمر الذي تسبب بكسور في جمجمته وبفقدانه للوعي. وقد دخل في غيبوبة لمدة 20 يوماً، واليوم ما زال يخضع للعلاج".
المطاط خطير أيضاً
من جهة أخرى، يشير المدير الإداري للبعثة الطبيّة في وزارة الصحة أسامة النجار إلى أن "طفلاً من مخيّم الجلزون (في رام الله) أصيب برصاصة مطاطية في الرأس، ووضعه الصحي خطير". يضيف لـ "العربي الجديد" أن "من الممكن أن تكون هذه الحالة فردية، ونحن لم نتمكن لغاية هذه اللحظة من اتخاذ قرار بخصوص علاجها. ولا حاجة للتحويلات الطبية، إذ الرأي الطبي أينما كان لن يتغير بشأن هذه الحالة بعد تشخصيها. ومستشفياتنا الفلسطينية قادرة على استيعاب الجرحى ومعالجتهم".
ويقول "ثمّة أربع حالات فقط لم نتّخذ قراراً حول علاجها بعد، نظراً لخطورة الوضع. أما الحالات الأخرى، فهي لأشخاص إما أصيبوا برصاصات اخترقت أجسادهم وخرجت منها، أو استقرت أخرى في أجسامهم وتفتتت في داخلها مثل الرصاص المسمّى التوتو. كذلك، ثمّة من تعالج واستقرّ وضعه بعدما مزّقت رصاصة كبده، وقد تم إمداده بخمسين وحدة دم ". ويتابع النجار أن "نحو مائة جريح حتى اللحظة، يتلقون العلاج في مستشفيات الضفة الغربية، حيث سبق وخضعوا إلى عمليات جراحية عديدة". ويلفت إلى ضرورة زيادة الوعي لدى الجريح وشرح وضعه له، لا سيّما الضرر الذي سيلحق به نتيجة إخراج الرصاصة من جسده، وتحديداً إن كانت قد استقرت في العظام أو في الأعصاب".
لا نستطيع فعل شيء
ويعبّر الجرحى وذووهم عن عجزهم مردّدين "لا نستطيع فعل أي شيء"، وهي جملة تكررت على ألسنة الجرحى وذويهم. يحكي ربيع السعدي من مخيّم جنين عن أخيه الجريح عبد الله، بعدما أصيب الأخير برصاصتَين في قدمَيه. ويقول أخاهما عدي السعدي لـ "العربي الجديد" إن عبد الله يعيش اليوم على المسكنات بعدما أفرج عنه طبياً وغادر مستشفى جنين". يضيف أن الرصاصتَين في جسده، "إذ ما من طاقم طبي حقيقي يغامر في إجراء عملية جراحية له".
ويتابع: "بعد ضغط مستمر، تم تحويله إلى مستشفى النجاح في نابلس، حيث أتى الرد حينها: لا نستطيع فعل شيء. وكنا نخشى اعتقاله في حال قمنا بتحويله إلى مستشفى المقاصد في الداخل. لذا، تنقّل من مستشفى النجاح إلى مجمع فلسطين الطبي في رام الله، قبل أن ينتهي المطاف بتجبير قدمه ورصاصة مستقرة في اللحم وأخرى في العظم".
هؤلاء يدورون في دائرة مغلقة، منهم من يحاول اختراق الواقع ليصحح خطأ يمكن أن يعدّه كثيرون إهمالاً طبياً، ومنهم من يحاول التملص من إجابات كثيرة قد تؤكد حدوث تقصير في المسائل العلاجية الخاصة بجرحى العدوان، ومنهم من يصارع من أجل تحويلة طبية تنقذه من عجز دائم. وبين هؤلاء وأولئك، وفي ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتزايد عدد الجرحى، كان لا بدّ من اتخاذ إجراءات احتياطية مستقبلية لتفادي التقصير، بحسب ما يلفت كثيرون من جرحى انتفاضة " القدس".
إقرأ أيضاً: رصاصةٌ قرب قلبي