لا أتذكر مواليدَ أحدٍ من عائلتنا، نسيت ما عُمْر أبي وما عمر أمي، ولأن هذه الحرب قد أبعدتني عنهم جميعاً، لا أستطيع حتى سؤالهم عبر الهاتف عن مواليدهم، ربما نسيت، وربما لم أكن أعرف أصلاً، فحين كان يمرّ ميلاد أحدنا، تقتصر المعايدة على بعض العبارات الباهتة لا أكثر.
جدِّي توفي اليوم، ولا أتذكّر كم عمره، لكنني أتذكّر وجهه جيداً، فقد تربيت في بيته بعد طلاق أمي وأبي، وأكثر ما أتذكره منه كفُّه المتشققة، كانت تمسك بكفي الصغيرة كلّ فجر، أثناء اصطحابه لي إلى البستان، حيث نعبر جسراً يسقف ساقية صغيرة تسقي مزارع "القُطيفة". نجتاز دروباً شديدة الضيق بين الأشجار، لا تتسع لأكثر من قدم واحدة. يسبقني محذِّراً إياي من التعثُّر، ثم نصل إلى أرضنا التي تظهر فجأة بعد سلسلة من الأراضي التي يتقاسمها أبناءُ القرية. أرضنا مسيَّجةٌ بأشجار التين والزيتون واللوز والرمّان والعنب، لا أحد يستطيع الدخول إليها إلا عبر فُرجة صغيرة بين الشجر. أقفز متجاوزاً الأخدود الذي يعبره الماء، أخافُ أن أسقط قبل وصولِ قدمي إلى الجهة الأخرى، ورائي حقل قمح، وأمامي جدي يمدّ كفه الخشنة ضاحكاً من ترددي، بعدها ينحني ويدخل إلى البستان فأتبعه.
كانتْ شجرة التين الأكبرُ سناً صديقته المفضلة، يلمسها بكفه مطمئنَّاً عليها، يتأمّل ثمارها. شقوق كفه تشبه شقوق جذع الشجرة، لنعرف عمر الأشجار، يكفي أن نقطعها من جذعها، فعدد الدوائر على امتداد الجذع يخبرنا بعدد سنواتها، هكذا، ربما كان عليَّ أن أعُدَّ التشققات في كفّ جدي لأعرف كم عمره.
آخر مرة عرفت أنه في الثالثة والستين، كنتُ طفلاً، وإلى اليوم ما زلت أشعر أنه في هذه السن، لكن ما يهمُّ الآنَ أن أعرف عمره؟ هو لم يعد يعرفني منذ أن أصيب بالزهايمر قبل أعوام طويلة، كان قد نسيَ حتّى الطريق إلى البستان. غير أني حين كنت أذكُرُ شجرة التين أمامه يضع كفّه على ثغره، ينظر إلَي بعينين دامعتين، يودُّ الحديث لكنه غير متأكد مما في ذهنه، يتظاهر بالتذكّر كي لا أحسّ بذاكرته المتلاشية، وبدوري أتظاهر بأنني أجهل مرضه.
أكتب اسم جدي على غوغل، ربما أحصل على معلومةٍ عن وفاته، أو صورة عن تشييعه، لكن غوغل يقدّم إلي معلومات عن عشرات الأشخاص الذين تتشابه أسماؤهم مع اسمه، وحين أضيف إليه اسم مدينتي، تظهر أسماء معتقلين ومفقودين وضحايا تم قتلهم من قبل النظام.
هناك رجل ربَّى دزينة أولاد؛ ست بنات وستة صبيان، أمضى أربعين عاماً من حياته موظفاً في إحدى الشركات بدمشق، عاش حروباً كان أوّلها الحرب العالمية الثانية، وآخرها الحرب الأهلية، هذا الرجل توفي اليوم على هذا الكوكب ولا يذكر "غوغل" أيَّ شيء عنه، من قال إن جدّي وحده كان مصاباً بالزهايمر؟.
جدِّي توفي اليوم، ولا أتذكّر كم عمره، لكنني أتذكّر وجهه جيداً، فقد تربيت في بيته بعد طلاق أمي وأبي، وأكثر ما أتذكره منه كفُّه المتشققة، كانت تمسك بكفي الصغيرة كلّ فجر، أثناء اصطحابه لي إلى البستان، حيث نعبر جسراً يسقف ساقية صغيرة تسقي مزارع "القُطيفة". نجتاز دروباً شديدة الضيق بين الأشجار، لا تتسع لأكثر من قدم واحدة. يسبقني محذِّراً إياي من التعثُّر، ثم نصل إلى أرضنا التي تظهر فجأة بعد سلسلة من الأراضي التي يتقاسمها أبناءُ القرية. أرضنا مسيَّجةٌ بأشجار التين والزيتون واللوز والرمّان والعنب، لا أحد يستطيع الدخول إليها إلا عبر فُرجة صغيرة بين الشجر. أقفز متجاوزاً الأخدود الذي يعبره الماء، أخافُ أن أسقط قبل وصولِ قدمي إلى الجهة الأخرى، ورائي حقل قمح، وأمامي جدي يمدّ كفه الخشنة ضاحكاً من ترددي، بعدها ينحني ويدخل إلى البستان فأتبعه.
كانتْ شجرة التين الأكبرُ سناً صديقته المفضلة، يلمسها بكفه مطمئنَّاً عليها، يتأمّل ثمارها. شقوق كفه تشبه شقوق جذع الشجرة، لنعرف عمر الأشجار، يكفي أن نقطعها من جذعها، فعدد الدوائر على امتداد الجذع يخبرنا بعدد سنواتها، هكذا، ربما كان عليَّ أن أعُدَّ التشققات في كفّ جدي لأعرف كم عمره.
آخر مرة عرفت أنه في الثالثة والستين، كنتُ طفلاً، وإلى اليوم ما زلت أشعر أنه في هذه السن، لكن ما يهمُّ الآنَ أن أعرف عمره؟ هو لم يعد يعرفني منذ أن أصيب بالزهايمر قبل أعوام طويلة، كان قد نسيَ حتّى الطريق إلى البستان. غير أني حين كنت أذكُرُ شجرة التين أمامه يضع كفّه على ثغره، ينظر إلَي بعينين دامعتين، يودُّ الحديث لكنه غير متأكد مما في ذهنه، يتظاهر بالتذكّر كي لا أحسّ بذاكرته المتلاشية، وبدوري أتظاهر بأنني أجهل مرضه.
أكتب اسم جدي على غوغل، ربما أحصل على معلومةٍ عن وفاته، أو صورة عن تشييعه، لكن غوغل يقدّم إلي معلومات عن عشرات الأشخاص الذين تتشابه أسماؤهم مع اسمه، وحين أضيف إليه اسم مدينتي، تظهر أسماء معتقلين ومفقودين وضحايا تم قتلهم من قبل النظام.
هناك رجل ربَّى دزينة أولاد؛ ست بنات وستة صبيان، أمضى أربعين عاماً من حياته موظفاً في إحدى الشركات بدمشق، عاش حروباً كان أوّلها الحرب العالمية الثانية، وآخرها الحرب الأهلية، هذا الرجل توفي اليوم على هذا الكوكب ولا يذكر "غوغل" أيَّ شيء عنه، من قال إن جدّي وحده كان مصاباً بالزهايمر؟.