جدلية التطرف الإسلامي

21 ديسمبر 2014
+ الخط -

"من ينازع وحوشاً يجب أن ينتبه جيداً ألا يتحول إلى وحش". هكذا ينصح نيتشه قراءه.
وصفةٌ دقيقة للمحاربين الثوار على الأرض السورية، ولكن، لا يمكن أن ندعي أن الأوان قد فات، مدللين على صعود تيارات جهادية متطرفة، "داعش" مثلاً، على المشهد العام، فالتحول الحاصل في سورية لن يمر تاريخياً مرور الكرام، ولن يكون نقطة تحولٍ وانتقال، أعتقد أنه تأسيس لولادة جديدة اجتماعية وسياسية، عسكرية، وحتى اقتصادية.
ما يبرر سلوكياتنا هو ردةُ أفعالنا على الطرف المقابل، تلك حقيقة تعلمناها في صغرنا، خصوصاً إن لم نجد المناصر أو المدافع.
المجتمع المسلم، بكل أطيافه، وعى على حقيقة "المؤامرة على الإسلام"، أو في أدنى درجة على "الأمة العربية"، ولعل الاستجابة تفاوتت بين السكون والحركة، والتجربة الجهادية في أفغانستان أفرزت حالة فريدة بدأت، اليوم، تقلب الطاولة على من استغلها من دون ضوابط، وللحكومات العربية اليد الطولى في ما يجري، ولا مكان، هنا، للحديث عن "النيات" الحسنة، فالسياسة لا تعرف إلا لغة الحقائق لإدارة الدول. وفي المقابل، هي لا تتعامل إلا بالمراوغة والخبث، والقرارات السياسية عندما تحكم بأصابع من وراء الكواليس لا بد أن تولد نهاياتٍ وخيمة.

لكم أن تتخيلوا ما سيحدث في سورية، لو استمر الوضع على حاله الراهن. من دون شك، المنطقة ستنفجر، وأول ما ستصيب القصور التي كبتت الشارع، أو صمتت، أو حتى واجهت التطرف، إن صحت التسمية، بالاعتقال بدل الحوار. فالقضية، من أولها إلى آخرها، تقع في الإطار الفكري، ولا تخرج عنه، وأي نتيجة حركية ما هي إلا نتاج لأفكار، استجابة للضغوط، فردت القوة بالقوة، والكبت بالانفجار، أو أنها غرس القيم الطائفية جيلاُ بعد جيل، لتفرز بالنهاية حقداً تاريخياً لا قيمة له إلا عند مصالح الملالي في طهران على سبيل المثال.
وبالحديث عن الإسلام، الشبح الذي قض مضاجع الشرق والغرب، ينشأ الحديث عن التطرف، وللحديث جانبان: الأول مصيب: وجود التطرف حقيقةً. لكن، هل الإسلام هو المتطرف، أم أن هناك أفكاراً مغلوطة تنتهجها بعض الجماعات، نتيجة فهمٍ وقراءةٍ غير واقعية، بل وغير صحيحة للدين؟، والثاني باطلٌ يسمي الأمور بغير مسمياتها، ويقلب الحقائق لخدمة غاية رخيصة.
دائماً ما يوصف الإسلام بالتطرف، أو الحركات التي تنادي بإقامة الشرع الإسلامي، ولعل جماعة الإخوان المسلمين أولى من اضطهدت وعانت من الأمر، والتاريخ يشهد لها دورها في فلسطين، حركة "حماس" أيضاً، لكن الواقع أثبت هذه الكذبة، وإلا فماذا يفسر توجيه ضربة عسكرية لتنظيم داعش، وترك الباب مفتوحاً أمام النظام الذي استباح الأرض والعرض ومعه الميليشيات الطائفية. وعلى العكس، لم نسمع الحديث ولا التصدي لتطرف الحكام، أو الحديث والتطرف المسيحي/الصليبي، كما نادى به بوش الابن، أو الإيراني المجوسي المقنع بالإسلام، ما التفسير؟ الخوف وإبقاء التوازنات السياسية القائمة، وحقيقة الصراع الطائفي اليوم ما هو إلا سياسي بالدرجة الأولى، صراع نفوذ ليس إلا.
التطرف الإسلامي، عنوانٌ صدع الرؤوس لكثرة سماعه، في الشارع، وفي البيوت، وعبر وسائل الإعلام. وما جرني للحديث هو جدل طريف حول التطرف الإسلامي و"الإسلاموفوبيا"، الذي عادةً يواجه من المدافعين عن الإسلام، بطرق مختلفة:
الأولى: نفي وجود مشكلة تطرف ديني في العالم الإسلامي، واعتبار التطرف حالةً شاذة، تحدث في كل الملل والأمم.
والطريقة الأخرى: كانت من خلال محاولة إبراز مذاهب وعقائد إسلامية، تطرح طرحاً مغايراً.
وهنا تمتد الحصيلة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في التيار الإصلاحي. من الإصلاحية السلفية، كالحديث عن الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا.. إلخ في القرن الـ19، حتى أحدث صيحات "الإسلام الجديد"، بإمام مسجد مسلم في فرنسا، كرس مسجده للشواذ جنسياً، ويقوم بعقد قران المثليين فيه، كما تحدثت وسائل الإعلام.
أما الطريقة الثالثة، فكانت من خلال العودة إلى التاريخ المسيحي نفسه، أي فضاء الثقافة الغربية اليوم، باعتبار المسيحية حملت قيماً دموية، وقتلت من البشر عشرات الملايين، إن كان من خلال الحروب الدينية في أوروبا، أو من خلال محاكم التفتيش واضطهاد المسلمين واليهود، أو حتى اضطهاد الكاثوليك للمذاهب المسيحية الأخرى، والعكس. وبالتالي مشكلتنا اليوم هي ذاتها مشكلتهم قبل قرون.
لكل طريقة أوجه منطقية وأوجه مستهجنة. فمن ناحية، هل التطرف أمر عابر في العالم الإسلامي ومحدود؟ أم مشكلة أنتجت "داعش" وميلشيات "أبي الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق"..إلخ؟ هل المشكلة إعلامية بتسليط الضوء من الإعلام الغربي على التطرف الإسلامي، كلما صعد تنظيم سياسي عنيف في المنطقة، كما يحدث مع "داعش" هذه الأيام؟
وهل يعكس الإمام الذي يعقد قران الشواذ جنسياً، قيماً إسلامية؟
هل الاستشهاد بالتاريخ المسيحي مناسب في الحديث عن واقع المسلمين اليوم؟
حقيقة، إن أبرز إشكال في كل هذه النقاشات، هو ضبابية المعايير التي يتم التحاكم إليها.
كمية المعلومات المطروحة والمتناقضة تبقي الأمر عصياً على الفهم. وهنا، أتحدث عن الشارع العربي، المحكوم أساساً بما يقدم له من صورة حول ما يحدث غالباً ما ترتبط بأجندةٍ ما.
نكتشف أن بعد نحو عقد من الحرب على "الإرهاب" لا أحد يعرف ما هو "الإرهاب" المقصود. فالحرب على "الإرهاب" تستهدف بعض الميلشيات "الإرهابية" في المنطقة وتتجاهل ميلشيات أخرى. بل تستخدم الميلشيات ضد بعضها.
الحرب على "الإرهاب" تستثني إرهاب الدولة الممارس من إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة من سردية الإرهاب، كما يتجاهل وصف "الإرهاب" الضربات الأميركية التي تقتل الآلاف منذ أعوام في العراق وأفغانستان، جلهم أبرياء، بحجة استهداف "إرهابيين".
التطرف يستثني الحديث عن الأنظمة التي تقمع "شعوبها"، وتكمم الأفواه.
نعم، هناك مشكلات في بعض دول العالم الإسلامي، أسباب هذه المشكلات مختلفة، بحسب سياق الدولة التاريخي ووضعها الحالي، وحالها السياسية والاقتصادية.. إلخ. هناك دول إسلامية (أي أن معظم سكانها مسلمون) تعيش نمواً لافتاً، كإندونيسيا وماليزيا وتركيا، وهناك دول انهارت، كالعراق وسورية واليمن، وهناك دول أخرى تتأرجح بين بين.
لا يمكن اختصار كل تعقيدات الجغرافيا والتاريخ والثقافة، باعتبار المشكلة واحدة والحل واحداً، كما يفعل الساخر الأميركي، بل ماهر من منطلقات ليبرالية.
لا ينبغي أن يكون معيار التقدم والتأخر هو ذاته المعيار الأميركي والأوروبي بقيمه الليبرالية. وخصوصاً مع زيف مفهوم التقدم والتخلف، والذي أنتج لنا الاستعمار الأوروبي بكل ويلاته. كما لا يكون للتعددية الثقافية معنى، إذا تم اعتبار الليبرالية هي نهاية التاريخ.
في النهاية، هي قضية فكرية لا يمكن الخروج منها إلا بمصداقيةٍ، تتناول جذورها التاريخية والاجتماعية، وكل أبعادها السياسية والنفسية.
وبالعودة للحديث عن سورية وثورتها، فليس ثمة من يقول بوجود تياراتٍ إسلامية ذات نزعةٍ إقصائية، إلا ما تقوم به "داعش"، ولعلها تصبح مقبولةً من منظور بعضهم لما وجد فيها الوسيلة للخلاص والقوة الضاربة الموجعة لنظامٍ استبد ومارس كل أنواع التطرف الطائفي الوحشي، في وقتٍ غنى فيه جيراننا، ورقصوا في ليالي الميلاد والأعياد، ونسوا الجسد الواحد المتألم، ليس المقصود التبرير، لكن انظر للأمر وقسه على نفسك وعرضك، ثم بناءً عليه أصدر حكمك.
المتحولون إلى وحوش هم من غرق في جدليةٍ فارغة، ونسي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم".

avata
avata
فرات الشامي (سورية)
فرات الشامي (سورية)