جدتي والبحر... علاقة محرّمة

16 مايو 2015
علاقة حب ربطت جدتي بالبحر(Getty)
+ الخط -
إذا كانت جدتي لوالدتي لم تسأل عن كُنه تلك الصفحة الزرقاء الممتدة على يسارها، أثناء انتقالها من قريتها الجبلية إلى بيروت، فلأنها عرفت ببديهتها أنه البحر. وأغلب الظن أنها خجلت من الاستفسار، بعد أن سمعت عن إحدى قريباتها، التي سألت خالها، عند وصولها إلى الساحل: "خالي شو هالجبل الأزرق؟". وتحوّلت الخبرية إلى طرفة يتناقلها الناس عندما يفتحون "ملفات" القرويين. زادت معرفة جدتي بالبحر وباتت أكثر وضوحاً، بعد أن تكرّرت زياراتها إلى العاصمة، بل صار هو المدينة بالنسبة لها، والمدينة هو.

صحيح أنها عرفته من خلف نافذة السيارة، لكنّها رأت غضبه في الشتاء، وهدوءه في الصيف. سمعت تلاطم أمواجه مرات عندما كان سائق سيارة الأجرة التي تستقلّها، يتوقّف لشراء الفواكه والخضار من على العربات التي كانت تستوطن الأرصفة المحاذية للشاطئ، في طريقه إلى المدينة المنشودة، وحفظت رائحته. وكانت تتلمّس وجوده الحاضر الغائب، كلما التصقت رطوبته بجسدها، فتضيق ذرعاً بحرّ المدينة وعرقها وتتمنى لو تعود سريعاً إلى قريتها.

هكذا عرفت جدتي المدينة أيضاً، فمن بيتها في الريف إلى بيت إحدى بناتها، كانت تنتقل كلما حان موعد ولادة أحد أحفادها أو حفيداتها، أو في حالات المرض القصوى التي كانت تستدعي دخول إحداهن إلى المستشفى، لتعود مجدداً إلى بيتها القروي بعد إنجاز مهمتها، من دون أن يتسنى لها الخروج أو الدنو أكثر من زحمة المدينة ونبضها.

وتعاقبت زيارات جدتي إلى المدينة مع كثرة الأحفاد، وكانت مرافقتها للبحر تطول عندما تلد أو تمرض ابنتها التي كانت تسكن في مدينة طرابلس الشمالية، فالمسافة من قريتها في جبل لبنان إلى منطقة الشمال طويلة نسبياً، ومؤانسة الأزرق على مدى ساعتين أو أكثر تزيدها اقتراباً منه.
في آخر زياراتها إلى بيروت والتي امتدت لأشهر، قبل وفاتها بفترة وجيزة، عرفتها عن قرب أكثر، كنت ألتقط كلمة من هنا وتنهيدة من هناك أو أنصت إلى تعليقها على حديث ما أو رأي. ويا ليت العمر أمهلها لكي أستمع لمخزون حكاياتها عن يوميات عاشتها تضج بالقهر والتعب والرغبات المكبوتة. ورغم ذلك لم أر فيها وقتها سوى "جدتي". تلك العلاقة التي تفترض مني الاحترام وتلبية الطلبات، والتي أعطتها دور المرشد والناصح والمعين لنا في يومياتنا.

أستعيد صورة جدتي بإلحاح على الدوام، أسترجع جلستها على مقعدها المعتاد خلف الشباك الذي يكشف مدخل بيتها وحركته، وأذكرها كيف كانت ترفع نظارتها على جبينها، متوقفة عن حياكة "الكروشيه " التي لم تتخل عنها يوماً لتقول لي "على المرأة ألا تعيش على جميل زوجها أو تستغل عرق أولادها طالما أنها قادرة على الإنتاج". لا أستطيع إلا أن أرى المرأة القوية – الضعيفة في آن.

لم أفهم سؤالها لي يوماً عمّا إذا كان أبي يتعب أمي ويقهرها، بل أزعجني إلى درجة شعوري بالكره لها، لأنها أساءت الظن بأبي. بعد ذلك فهمت معنى جزعها على أمي وعلى بناتها. ربما لأنها لم تكن سعيدة في حياتها الزوجية، فهي لم تحدثني ولو لمرة واحدة عن جدي، لم يكن موجوداً في الحديث.

أذكر شكل حجابها جيداً، تلف منديلها الكبير حول رأسها وتخفي وجهها باستثناء عينيها. كانت تهوى الاستماع إلى كلام الناس، وتحب التعرف إلى الوجوه الجديدة، من دون الجرأة على المشاركة في الحديث. إلى أن سألتني في أحد الأيام عن البحر وأطالت الاستفسار، وقالت بعد طول حديث "يا ليتني أمشي في مياهه".

اليوم أشعر بالندم لعدم اصطحابها إلى البحر. ولكن في حينه لم يكن الأمر وارداً، فهي السيدة المتدينة، المحتشمة بمنديلها الأبيض الكبير الذي يلتف حول رأسها ويتدلى لشدة اتساعه محيطاً بثوبها حتى أسفله، فكيف بإمكانها الذهاب إلى الشاطئ؟ كنت أصغر من أن أخرق هذا الممنوع.
ماتت جدتي قبل أن تطأ قدماها رمال الشاطئ المبتل.

ماتت دون أن تتعرف إلى ملوحة البحر أو يلفح وجهها رذاذ موجه.
غادرتنا وهي مقتنعة أن البحر من المحرّمات. فكيف لي أن أخبرها أن أمنيتها مشروعة وليست حراماً؟ وأن أوقف سيل التمنيات المفترضة التي كانت تشغل بال جدتي ولم تفصح عنها.

اقرأ أيضاً: حكواتي: يا عيني عليه في الحزين
دلالات
المساهمون