جدة-أوستن.. من صخب المقاهي إلى هدأة المكتبة


05 نوفمبر 2014
تبقى الأماكن جميلة بروح ساكنيها (Getty)
+ الخط -

يغلب التعاطي مع الأماكن العامة على أنها رئة الحياة للشباب والمجتمع، ويقاس جمال المدينة، أي مدينة، بما يتوفر فيها من أماكن تجذب الساكن أو الزائر نحوها، سواء كانت الشواطئ أو المقاهي، أو حتى الأسواق، كما في دول الخليج العربية مثالاً. هنا سنستعرض الفضاءات المكانية بين مدينتين، جدة، مثالاً للمدينة الساحلية الخليجية العربية، وأوستن مدينة غربية.


اللحظات المكانية

جدة مدينة مطلة على البحر الأحمر، لكن ليس هناك ذلك الحيز المكاني الكبير الذي من الممكن الذهاب إليه، حيث المساحة العامة التي من الممكن الذهاب إليها هي عبارة عن رصيف إسمنتي على يمين ويسار الطريق، يزدحم بالمارة الفارين من زحام المدينة، وهو ليس شاطئاً رملياً كما من المفترض أن يكون، رغم محاولات أمانة جدة في السنوات الأخيرة لإحياء المساحات المكانية الميتة على جسد هذا الشاطئ، لكن هي فعلاً خجولة.

وخلال العقود الماضية فطنت برجوازية المدينة والمنطقة الحجازية إلى الأهمية المكانية للشطئان، حيث ُسوّر البحر بجدران لا تدخلها إلا الحيوانات الضالة، وبعض هذه الأسوار تم إعمارها للصالح الخاص لإقامة حيز خاص، أما في البعض الآخر فتم تدشين ما يسمى عند أهل جدة "الكبائن أو الشاليهات"، وهي أماكن كالشقق الفندقية مجاورة للبحر، يذهب لها المقتدرون ليلة أو ليلتين للاستمتاع بالبحر المختنق بالأسوار وبجشع التجار.


مقاه ليست كالمقاهي

تنتشر في مدينة جدة العديد من المقاهي، وتختلف في ما بينها في الجودة وفكرة المكان، فمثلاً مركز عطاالله الكائن على شاطئ جدة، فيه العديد من المقاهي التي يذهب إليها عشاق الجلوس في المقاهي للقراءة والعمل، حيث في المكان جاذبية لا يفهمها إلا أهل جدة، والرفاق الذين تلتقي بهم صدفة في تلك الأماكن يضفون لوناً آخر على المكان، حيث تتوفر لحظات فاخرة من لقاء أصدقاء أو زائر لتلك المدينة المخذولة من قبل الجميع، تجارها، أهلها الطيبين، والمسؤولين عن واقع تنميتها.


كازينوهات الشيشة وكرة القدم

جدة من المدن التي تكاد تكون مقاهي الشيشة والمعسل معلماً من معالمها المركزية لكثرة عددها، وأيضاً لتعدد المستوى الطبقي فيها، فهناك مقاه تتسول فيها القطط المسستأنسة مع رواد المكان القابعين فيها، يما يحملون من روح المكان وتفاصيله، وهناك المقاهي البرجوازية لمن لا يرتضي الجلوس في فضاء مفتوح مع عموم الشعب، بل يريد خصوصية متمايزة، علامة على البذخ والفرز الاجتماعي، ما بين هذين المستويين هناك العديد من التفاصيل التي يتقاسمها أهل المدينة، لكن تبقى هذه الأماكن هي الموعد للأنس والحديث ومشاهدة المباريات الكروية الساخنة.


أوستن.. عالم ليس آخر

أوستن (1839) هي عاصمة ولاية تكساس الأميركية العملاقة، بعدما دشنت المدينة بفترة قليلة، أسست جامعتها، التي يتجاوز عمرها حالياً المائة والثلاثين سنة، وهي مدينة تختلف عن محيطها المكاني، أي ولاية تكساس، لها خصوصية جذابة كتلك التي لجدة، حيث أهلها لديهم ذات اللطافة ويسر الحديث مع أي شخص قد يصادفونه. وتسمى أوستن مركز الليبرالية، لانفتاحها على ما حولها، وهذا يعود لوجود الجامعة، حيث أسهمت بخلق هذا الفضاء الرحب، بانفتاحها وحيويتها وليس بانغلاقها على نفسها وقطع أي خطوط تواصل مع المجتمع المحلي، كما هو حال جامعة الملك عبدالعزيز في جدة. في أوستن نهر كولورادو الذي يقطع المدينة من شمالها إلى جنوبها، على حافة هذا النهر العديد من الأماكن والفضاءات الحية من مقاه وأماكن لممارسة الرياضة والترفيه، وفي هذا فجوة يحسها من يزور أوستن من جدة.


مقاهي عمل ودراسة

في جامعة أوستن أكثر من خمسين ألف طالب، وهي محاطة بالمقاهي من كل حدب وصوب، وليس فقط حول الجامعة بل في كافة أنحاء المدينة، حيث تجد الطلاب فيها عاكفين على كتبهم ومشاريعهم البحثية، وإن كانت بعض المقاهي تتميز عن غيرها بأنها مقاه للدراسة والعمل، حيث لا تسمع فيها همساً ولا حركة، ويعتبر الحديث أو كثرة الحركة اسلوباً غير لائق من وجهة نظر مرتاديها، وهذه أغلبها حول الجامعة والأحياء المجاورة لها.


الفضاء المكاني والهوية الطلابية

أنت طالب إذاً أنت محظوظ، حيث إن كل شيء في هذه المدينة تقريباً يكنّ لك احتراماً، ومن باب هذا الاحترام: التخفيض في السعر، حيث تنتهج المحلات والمطاعم والمقاهي هذا النمط لكسب ولاء وانتماء الطلاب، والمكان له جاذبية بمن فيه من طلاب. وتعتبر مكتبة الجامعة هي المكان الأساسي للدراسة، ستة أدوار كفيلة بضم العديد من الطلاب مع توفير الخدمات الأساسية لهم بشكل ذاتي. أيضاً من السهل أن ترضي مزاجك الدراسي في الدور الذي تريد، إذا كنت ممن يحب المذاكرة والكتابة في وسط الضجيج فهذا متوفر في الدورين الأول والسادس، أما إذا كنت تفضل الهدوء والبعد عن الضجيج فالدوران الثالث والرابع.

ليس هذا فحسب، بل حتى نوعية الكراسي الدراسية والخدمات التقنية متنوعة، فضلاً عن غرف الحلقات النقاشية المشتركة، التي تتوفر في كل دور من المكتبة.


عن المكانين

ما بين جدة وأوستن العديد من الفروقات، منها ما هو جيد وما هو عكس ذلك، والجيد هو انعكاس على تطور الأنظمة والخدمات والثقافة العامة المشتركة بين أصحاب المكان، حيث على سبيل المثال لا الحصر، يمنع منعاً باتاً التدخين في أي مكان مغلق في أوستن، وهذا أمر لا تهاون فيه، ويكاد يكون مستحيلاً أن تجد من يفعل هذا، أما للأسف في مدينة جدة، فهناك قانون لكن بلا فاعلية، وغير مقبول عند مرتادي الأماكن العامة.

أيضاً احترام المكان، حيث في مقاهي جدة حالة تنمّ عن عدم احترام لمن يأتي للمكان بهدف العمل أو الدراسة، حيث حالة الإزعاج هي السائدة، وإذا ما أشرت لمن حولك برجاء الحديث بصوت أقل صخباً تجد الاستنكار وكأنك طلبت أمراً ليس من حقك.

تبقى الأماكن انعكاساً لطبيعة مرتاديها وثقافتهم الاجتماعية، حيث من الصعب لوم المقاهي الصاخبة في جدة، لأن الصخب مكون اجتماعي تعيش عليه المدينة، لكن تبقى جدة جميلة لو لقيت عناية كافية، وتبقى الأماكن جميلة بروح ساكنيها.

المساهمون