من بين مجمل النتاج الفني لشعوب تقاوم محتلّاً، أجنبياً كان أم وطنياً، يمكن انتقاء الرسم كفنّ مشترك بينها، إذ لا يحتاج إلى كلمات يجب ترجمتها، خلافًا للأدب والسينما وغيرها، أمّا الموسيقى فتجريديّتها تنفتح على تأويلات عدّة. والرسم يخرج لمتلقّيه على الورق والشاشة، وكذلك على بيوت المدينة وجدرانها. وحتّى لو وجدت الكلمة في "الغرافيتي"، فإن الرسم يطغى عليها، أي أن الشكل، أسلوباً وتلويناً، بخّاً وطلاءً، هو الأساس الفعلي، لا ما تعنيه الكلمة. هذا الحياد اللغوي والانحياز التعبيري المباشر هو على ما يبدو المشترك فنّياً، والأسلوب الأكثر انتشارًا بين الشعوب، أو فئاتٍ منها، تلك المضطهَدة والمستضعَفة.
تكون أكثر الحالات حرجاً تحت الاحتلال بنوعيه الأجنبي والوطني، أمّا الأقلّ حرجًا فتكون ضمن المجتمعات الفقيرة الخاضعة لنوع ثالث من الاحتلال، يكون اقتصادياً بالقدر الذي يعني فيه الاحتلالُ السيطرة والإخضاع، لأنّ الرسم هنا على جدران المدينة وأسوار أبنيتها في الأحياء الهامشيّة حيث يسكن الفقراء، أو في الأماكن المهمّشة ضمن المركز، أسفل الجسور وخلف الشوارع. "الغرافيتي" ترميز للظلم، يحكي أنّ الظلم يمرّ من هنا وأنّ هذه لطخ آثاره، تماماً كما هي حال المقاومة، توجد آن يكون احتلال.
الحالات الأكثر حرجاً للاضطهاد والاستضعاف: الاحتلال، وفي ذلك ما لا نهاية للحديث عنه عربيًا؛ من فلسطين إلى سورية إلى غيرهما. بدأت الثورة السورية بفعل أقرب للرسم "الغرافيتي"، وإن كانت كلمات مباشرة طُبعت كتابة ولم ترسم، لكنّها تعبير مباشر على جدران مدرسة لأطفال أرادوا القول إنّ الظلم يمرّ من هنا وإنّنا نحكي لكم وله ذلك ونريد، أخيراً، إسقاطه.
الحالة الأكثر بروزاً ؛ فلسطين، بسبب تاريخية ثنائية الاحتلال/المقاومة فيها. لا تعني فلسطين هنا حدود المكان الجغرافي بقدر ما تعني المكان المشتّت، حيثما تواجد فلسطينيون؛ المخيّمات خارج الوطن تمتلئ جدرانها بـ "الغرافيتي"، رسومات يكاد يكون تواجدها طبيعياً، لا بدّ منه، كوجود الجامع والعيادة والمخبز في المخيم.
على أطراف مدينة حمص، هنالك مخيم صغير اسمه "العائدين"، عشت فيه لسنوات. يقع بين المدينة الجامعيّة والجامعة ويفصل بينه وبينهما سورٌ. في المخيّم مجموعة صغيرة من الأهالي ينشطون ثقافياً واجتماعياً ضمن منتدى يحمل اسم الشهيد غسان كنفاني. نظّفوا مرّة جدران السور عند مدخل المخيّم. هناك يبدأ السور وينتهي، محوّطاً المخيّم. يمتدّ عند المدخل لعشرات الأمتار، فيفتح المخيّم على الشارع الرئيسي؛ "طريق الشام".
نظّفوه بالطلاء الأبيض واشتروا كمّيات من الألوان ومنحوا لهواة ورسّامين محترفين من أهالي المخيم مساحات شاسعة للرسم. وكان السور عالياً. طُبعت على السور لوحات لناجي العلي وإسماعيل شمّوط، ورسومات ذات مضامين فلسطينيّة متنوّعة. ولأنّه كان لا بدّ من حضور دائم لهذه "الجداريات" قام المنتدى بعمليات ترميم شبه سنويّة لما يتقشّر منها.
سمّيتُها "الجدرايّات" مستعيداً محمود درويش في كلمته أثناء حفل توقيع ديوانه "جدارية" في رام الله، منوّهاً بأنّها "العمل الفنّي الذي يُنقش أو يُرسم أو يُعلّق على جدار"، مستعيداً الأعمال الأولى من النقش والرسم والتعليق، التي نما شكلها وأسلوب إنجازها لتصير "الغرافيتي" التي نعرفها اليوم على جدران المخيمات وعلى الجدار الأشهر فلسطينياً: ذاك المتلوّي في أراضي الضفّة الغربية.
قد يخطر لأحدنا أن جدار القضم والضمّ يحوي العديد من الرسوم التي سنفتقدها حال هُدم الجدار. هي أعمال فنيّة بالنهاية، رسمها مجهولون، كحال معظم فنّاني "الغرافيتي"؛ من "بانكسي" المجهول المُعرّف، إلى آخرين مجهولين غير معرّفين. هي فكرة أقرب للسخرية من واقع البلاء الذي جلبه الجدار على أهالي الضفّة، مضيفاً على كلّ ما سبقه من بلاءات الاحتلال، وهو كذلك مدح للردود على ذلك، أي المقاومة متّخذة شكل "الغرافيتي"، يرسمها فنانون وهواة فلسطينيون وأجانب قدموا من العالم أجمع، وجعلوا من رمز الظلم الكونكريتي العملاق، قماشة رماديّة شاسعة تُطوع لكل أساليب الرسم. ولأنّ الرسم عالميّ بطبعه، لا هويّة لغويّة له، كان "الغرافيتي" على هذا الجدار مرسوماً بلغة الأم وكانت محلّية فلسطينية، لا حاجة لترجمتها لا إلى العربية ولا إلى غيرها من اللغات، مكتسبةً إضافة لمحلّيتها، عالميّتها.