لا تظهر أية إشارة من قريب أو من بعيد، تدل على قرب، أو بداية، العمل على قضية الشهداء المتحجزة جثامينهم لدى سلطات الاحتلال. لكن المراقب للشأن الفلسطيني وببساطة شديدة، يستطيع الاستدلال على مدى تجذر حوادث احتجاز الجثامين التي تحولت إلى سياسة ثابتة تنتهجها قوة الاحتلال من أجل المقايضة والابتزاز أو حتى تحويلها إلى أحد ملفات مفاوضات الحل النهائي.
الهبة الشعبية الفلسطينية الأخيرة بدورها ونظراً لكثافة حوادث احتجاز جثامين الشهداء، ساهمت بشكل أو بآخر في إعادة هذا الملف مرة أخرى إلى الواجهة، نظراً لإمعان إسرائيل في عدم تسليم جثامين الشهداء الذين وصل تعدادها إلى أكثر من 40 جثماناً، أفرج عن بعضها، لتبقى الأخرى رهينة الاحتجاز المتواصل، في خرق واضح لأبسط القواعد المنصوص عليها في المواثيق والمعاهدات الدولية، اتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولاتها الأول والثاني التي تُلزم الاحتلال بتسليم الجثامين إلى ذويهم فور استشهادهم.
ولكن وحتى اللحظة يحتجر الاحتلال أكثر من 272 رفاتاً لشهداء فلسطينيين استشهدوا على مدار العقود الستة الماضية، بينما يدعي جيش الاحتلال أنه يتحفظ فقط على رفات أكثر من 150 شهيداً، آخرهم كان احتجاز جثامين أكثر من أربعين شهيداً من شهداء الهبة الأخيرة التي بدأت في الأول من شهر أكتوبر من العام الماضي.
لا تتوقف قضية احتجاز الجثامين عند حدود تأخير تسليمها، والتأخير هنا، قد يصل إلى عشرات السنوات، بل قد تتفرّع عن هذه الجريمة، جرائم قد تتجاوز في خطورتها القضية الأم، والحديث هنا عن سرقة أعضاء (انظر تصريح "يهوا هيس" رئيس "معهد الطب الشرعي الإسرائيلي" الذي أشار في تصريح رسمي إلى أن "إسرائيل" سرقت أعضاء شهداء فلسطينيين لأغراض استخدامها في علاج جرحى ومرضى المستشفيات الإسرائيلية) أو إحالة هذه الجثامين إلى مقابر الأرقام، وبالتالي إمكانية فقدانها تبدو واردة وبقوة، وهو ما حدث مؤخراً حين أعلنت سلطات الاحتلال أن ما يوجد لديها من جثامين هو 119 جثماناً فقط وأنه لا وجود لـ 143 جثماناً آخر اعتبرت سابقاً في عداد الأسرى لدى "إسرائيل"، تعود عشرون منها لأردنيين، واثنان لمواطنين مغاربة والبقية لفلسطينيين قضوا في عمليات عسكرية إسرائيلية أو أثناء الاعتقال.
ولعل حادثة فقدان جثمان الشهيد أنيس دولة (مواليد قلقيلية 1944-1980) والذي فارق الحياة بعد إضراب عن الطعام استمر قرابة الشهر في معتقل عسقلان عام 1980، لم تتوقف عند حدود استشهاده في أحد المعتقلات، إذ قررت المحكمة الإسرائيلية حينها تحويل جثمان الشهيد إلى مقابر الأرقام حتى يستكمل مدة المحكومية في المقبرة والتي بلغت المؤبد، لتعود المحكمة ذاتها في العام 2013، إلى الإعلان رسمياً عن فقدان الجثمان وبالتالي عدم وجود أية معلومات تخصه.
تشير تقارير متعددة إلى أن ما بات يطلق عليها بمقابر الأرقام التي تنتهك أبسط قواعد حقوق الإنسان، تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الأرشفة أو الاحتياطات، التي من شأنها أن تحفظ الجثامين أمام التغيرات الطقسية وخصوصاً الأمطار والسيول، وبالتالي تعرض الجثامين للانكشاف في أية لحظة أمام السيول، أو فقدان الإشارة الأولى حولها "الرقم" وهو ما عمدت إليه إسرائيل في أكثر من مرة سلمت فيها جثامين، ليتبين لاحقاً، وبعد الفحص، أن الرفات يعود إلى شخص آخر، غير من يفترض أنه صاحبه.
"إسرائيل" من جهتها، وفي غياب أية ضغوطات حقيقية، لم تقدّم مواعيد محددة لتسليم ما تبقى من الجثامين، وفي الحالات التي قامت بتسليم جثامين، كانت في كل مرة تتعمد إظهار مزاجيتها التي غلبت على مواعيد التسليم بالتأجيل والمماطلة، لتبقى هذه القضية وحتى اللحظة، رهن التأجيل ورهن حسابات المشروع الاستعماري وساديته.
* كاتب فلسطيني/ قلقيلية