منذ أن بدأت عمليات هدم جبانة المماليك الممتدة على طريق صلاح سالم الرئيسي، والمعروفة بمقابر المماليك، بما فيها من مقابر تاريخية وآثار إسلامية تعود لنحو خمسة قرون، لإنشاء محور جديد اسمه "الفردوس"، في إطار توسعة شبكات الطرق والكباري في مصر. وعلى الرغم من الرفض الشعبي الواسع المدعوم بآراء أساتذة عمارة وآثار؛ كان الموقف الرسمي الوحيد هو "النفي".
ونفى المجلس الأعلى للآثار في مصر، هدْم حرم الآثار الإسلامية المسجلة في المنطقة. الجبانات التي هُدمت ملكية خاصة لأصحابها، وجرى الاتفاق معهم على نقلها إلى مكان آخر.
وبعد بدء عمليات الهدم فعليًا، قالت السلطات إنه "سيتم تشكيل لجنة علمية فنية لمعاينة الشواهد والأحجار التي تشتمل على نقوش زخرفية أو كتابية ليتم دراستها وبحث إمكانية عرض جزء منها في بعض المتاحف كجزء من تراث مصر المتميز"، ما يعد اعترافًا ضمنيًا بأهمية هذه الأحجار الأثرية.
تعذر التواصل مع عدد من مسؤولي الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، التابع لوزارة الثقافة المصرية، والمعني بالحفاظ على الطابع المعماري والعمراني للمناطق المختلفة، وتحقيق القيم الجمالية للعمران المصري بشكل عام، الجميع إما لا يرد على أسئلة الصحافيين، أو يرفض التعليق. إلى أن قال مصدر مطلع في الجهاز إن "الجميع يخشى على موقعه، ويرفضون الحديث عن أية مشاريع متعلقة بالطرق والكباري، في القاهرة والجيزة، لأنها من تنفيذ الهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري".
لذا؛ فإنه في ضوء المعلومات المتاحة عن محور الفردوس، وحسب الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان المصرية، فإنه من المقرر أن يبدأ من تقاطع شارع رمسيس مع شارع أحمد سعيد متقاطعاً مع محور الأوتوستراد عند حي منشأة ناصر حتى ربطه بامتداد محور الشهيد وصولا لمدينة نصر والقاهرة الجديدة، بتكلفة إجمالية مليار جنيه، على أن يتم الانتهاء من تنفيذه في غضون ستة أشهر.
لكن، بعيدًا عن النفي الرسمي لتدمير التراث، وإصرار الجهات التنفيذية على الحديث عن المشروع بلغة الهندسة والأرقام بحسابات الطول والعرض والارتفاع والتكلفة الإجمالية، تبقى التكلفة الحقيقة لهذا المشروع في قيمته التراثية والجمالية والمعمارية، ودخوله في نطاق القاهرة التاريخية، المصنفة "تراثًا عالميًا" وفقًا لمنظمة اليونسكو ومسجلة منطقة حماية وفقًا للقانون رقم 119 لسنة 2008 وتحتوي على مقابر ذات طراز معماري متميز مسجلة تراثًا وفقًا للقانون رقم 144 لسنة 2006.
ووفقًا لشهادة أستاذة العمارة، سهير زكي حواس، التي كانت رئيس الإدارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري -مؤسسة حكومية مصرية- فقد سبق منذ عدة سنوات طرح فكرة تنفيذ المحور، لكن تم إيقافه من قبل الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الذي كانت تمثله، خلال اجتماعات مناقشة هذا الأمر، لأنه يدخل في إطار القاهرة التاريخية المسجلة ذات قيمة تراثية عالمية في عام 1979 من قبل منظمة اليونسكو، ومسجلة منطقة ذات قيمة تاريخية وفقًا للقانون المصري 119 لسنة 2008، ومعتمدة من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية في يوليو/تموز 2009.
عمليات هدم جبانة المماليك الممتدة على طريق صلاح سالم الرئيسي في إطار توسعة شبكات الطرق والكباري في مصر
وقد أصدر الجهاز القومي للتنسيق الحضاري كُتيبًا لأسس ومعايير التنسيق الحضاري للمباني والمناطق التراثية وذات القيمة المتميزة في 2010 وكتيبًا آخر للاشتراطات العامة لحماية نطاقات الحماية في القاهرة التاريخية يتضمن هذه الخريطة وتم اعتماده أيضا من قبل المجلس الأعلى في عام 2011".
وإلى جانب هذا الاعتراف الصريح من جهاز التنسيق الحضاري، بالأهمية التراثية لتلك المقابر، فإن العديد من الدراسات والأبحاث المستقلة، ناقشت أبعاد أهميتها أيضًا في ضوء مخططات القاهرة على المدى الزمني البعيد.
وأشارت دراسة صادرة عن مركز "شفافية" للدراسات المجتمعية والتدريب الإنمائي ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية (MEPI)، بشأن أمن الحيازة والمناطق التراثية والتسامح والعشوائيات في ضوء مخطط القاهرة 2050، إلى إن إهدار تراث يتمثل في أن هدم مقابر القاهرة إهدار للتاريخ، حيث تمتد مقابر "قرافة" القاهرة التاريخية حول أطراف مدينة القاهرة وكانت نشأتها على مراحل تاريخية متعاقبة بدأت منذ الفتح الإسلامي وما تلاها من عصور حتى عصرنا الحالي.
ولفتت الدراسة إلى أن إطلاق اسم القرافة على جبانات القاهر، يرجع إلى بداية القرن الرابع الهجري، حيث طرأت ظاهرة جديدة على استخدام المقابر في دفن الموتى وهي بناء حي عمراني بجوار المقابر تداخل معها عمرانيًا؛ حيث امتدت المنازل داخل منطقة المقابر، وقد استمد هذا الحي اسمه من اسم عائلات بني قرافة، وهي أحد بطون فروع قبيلة المعافر، وإلى هذه القبيلة ينسب مجموع جبانات القاهرة التي عرفت جميعًا بالقرافة.
وعن جبانة المماليك تحديدًا، وأهميتها التاريخية والتراثية؛ ذكرت الدراسة أن قرافة المماليك الواقعة في صحراء المماليك، إلى الشرق من طريق صلاح سالم الحالي، نشأت في عصر المماليك الشراكسة مع نهاية القرن الثامن الهجري حيث بدأ سلاطين المماليك وأمراؤهم في إنشاء المساجد والخوانق بهذه المنطقة وألحقوا بها مدافن لهم. وما إن انتهى القرن التاسع الهجري إلا وكان بها مجموعة من العمائر الدينية والقباب لم تجتمع في صعيد واحد مثل ما اجتمعت هناك، وأكثر من عُني بالإنشاء بها من سلاطين المماليك الشراكسة السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي، لذلك فإنها تعرف في المصادر بمقابر قايتباي.
ووفقًا للدراسة ذاتها فقد تم الإعلان من خلال مخطط مشروع القاهرة 2050 عن تحويل تلك الجبانات التاريخية الموجودة بين طريقي صلاح سالم والأوتوستراد إلى أكبر متنزه عام بالقاهرة على مساحة 1400 فدان، وشمل قرار المشروع نقل سكان مقابر والغفير والمجاورين والإمام الشافعي وباب الوزير بالقرافة الشرقية للمسلمين وباب النصر قايتباي إلى مناطق جديدة.
يذكر أن مشروع القاهرة 2050 والذي توقف تمامًا، شارك في تنفيذه وزارة الإسكان وهيئة التخطيط العمراني والجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ومؤسسات دولية شاركت برؤيتها أبرزها اليونسكو و«الجايكا» اليابانية وجامعة بوليتيكنيكو الإيطالية.
ومع توقف مشروع القاهرة 2050 وما شابه من عوار بشأن التعامل مع تلك المناطق الأثرية، وتصدي الجهاز القومي للتنسيق الحضاري للمحاولات السابقة لتدمير هذه المنطقة ومنع إقامة محور الفردوس، جاء عصر الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة المصرية، لتفرض فيه رؤيتها الصارمة والأحادية على مناحي الحياة، حتى الأثري منها والتراثي.
تبقى الكلفة الحقيقية للمشروع في قيمته التراثية والمعمارية
فوفقًا لتصريحات المسؤولين تبدأ عمليات الهدم أولًا، ثم "يتم تشكيل لجنة علمية فنية لمعاينة الشواهد والأحجار التراثية لعرضها في المتاحف كجزء من تراث مصر المتميز".
ويتم تنفيذ المشروع والاكتفاء بنفي الاقتراب من المواقع الأثرية والتراثية، على الرغم من دخول المنطقة بالكامل في نطاق القاهرة التاريخية، بنسخته المعتمدة على موقع جهاز التنسيق الحضاري، التي حدّها الشرقي يبدأ من طريق الأوتوستراد ثم هضبة المقطم، حتى شارع حسن حمادة، ثم طريـق الأوتوستراد، ثـم غربًا في شارع سيدي أبو رمانة وصولاً إلى شارع الجلاء وطريق الأوتوستراد مرة أخرى.
وحدها الجنوبي يبدأ من طريق الأوتوستراد ثم غربًا في شارع أبو الحجر، ثم شارع الغفاري وصـولا إلى حفائر الفسطاط حتى كورنيش النيل.
وحدها الشمالي يبدأ من ميدان رمسيس مرورًا بعدة مناطق ثم شارع إدارة المرور، ثـم طريق صلاح سالم حتى ميدان الفردوس، ثم شارع الأمير قرقماش، ثم شارع نصر أبو الفرج حتـى طريق الأوتوستراد.
ووفقًا للاشتراطات العامة في الباب الثاني الخاص بالتنسيق الحضاري في القانون رقم 119 لسنة 2008 ولائحته التنفيذية - المادة 33 (من الفصل الثاني من القانون الخاصة بالمناطق ذات القيمة المتميزة)، فإنه "تحدد المناطق ذات القيمة المتميزة بناءً على اقتراح الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، ووفقًا للاشتراطات التي يضعها للحفاظ على هذه المناطق، ويصدر بها قرار من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية. لا يجوز إقامة أو تعديل أو تعلية أو ترميم أي مبانٍ أو مشروعات أو منشآت ثابتة أو متحركة، ولا وضع إشغالات مؤقتة أو دائمة، ولا تحريك أو نقل عناصر معمارية أو تماثيل أو منحوتات أو وحدات زخرفية في الفراغات العمرانية العامة في المناطق المشار إليها بالفقرة السابقة (في القانون) إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من الجهة الإدارية المختصة، وللمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية أن يشترط الحصول على موافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في بعض المناطق التي يصدر قرار بتحديدها".
ثم جاءت هذه الفقرة بمفردها في البند نفسه من القانون "يحظر إقامة أي إنـشاءات في الفراغات العامة والمفتوحة أو الشوارع والميادين داخل المنطقة ينتج عنها تداخل مع الصورة البصرية لواجهات المباني مثل كباري المشـاة والطرق العلوية للسيارات أو الإعلانات واللافتات الإرشادية التي تقطع الشوارع والمـيادين".
مماليك السيسي ويهود مبارك
وكان اللافت هو الاختلاف ما بين تعامل الدولة مع مقابر اليهود في مصر، التي لم يجرؤ نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك على المساس بها عند إنشاء الطريق الدائري، وبين تعامل الدولة في ظل نظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في التعامل مع مقابر المسلمين التاريخية في صحراء المماليك.
في تسعينيات القرن الماضي، قررت الحكومة المصرية إنشاء طريق يدور حول القاهرة الكبرى، ويعتبر هذا الطريق الدائري حتى الآن هو أهم الطرق المرورية في العاصمة التي يقطنها نحو 10 ملايين نسمة.
وعند التخطيط للطريق الدائري نزعت الحكومة ملكية الكثير من الأراضي من مواطنين لصالح الطريق وعوضتهم عن ذلك وفقاً للقانون، ولكن وفي منطقة البساتين التي يمر بها الطريق ظهرت مشكلة من نوع آخر، إذ اكتشف المنفذون أن إنشاء الطريق يتطلب إزالة مقابر اليهود في مصر.
وتعد مقابر البساتين ثاني أقدم مقبرة يهودية في العالم، بعد مقبرة "جبل الزيتون" في القدس، وأنشئت في القرن التاسع الميلادي، على مساحة تبلغ 120 فدانا، وخصصت لدفن موتى اليهود من طائفتي القرائيين والربانيين، وتضم في ثراها رفات اليهود المصريين الذين كانوا يعيشون في مصر، وهاجر أغلب اليهود إلى إسرائيل في خمسينيات القرن الماضي.
التفكير في إزالة مقابر اليهود في مصر دفع الحاخام الإسرائيلي الراحل عوفاديا يوسف، الزعيم الروحي لحزب شاس الديني، إلى الإسراع بزيارة مصر ولقاء الرئيس المخلوع حسني مبارك من أجل إقناعه بعدم هدم المقابر.
وبحسب ما ذكره وزير الداخلية الإسرائيلي أرييه درعي في مقال نُشر عام 2016، فإن مبارك دعا كبير حاخامات اليهود الشرقيين عوفاديا يوسف إلى زيارة مصر عام 1988، ورافقه درعي خلال الزيارة، وقال: "في الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية، حيث يقع قصر مبارك، توقفنا في دمنهور، عند قبر الحاخام يعقوب أبوحصيرة، كانت هذه هي المرة الأولى لنا التي نزور فيها قبر الحاخام، وأذكر بأنّهم فتحوه لنا بشكل خاص".
لم يجرؤ نظام مبارك على المساس بمقابر اليهود فيما يدمّر نظام السيسي مقابر المماليك التاريخية
وأضاف درعي أن الوفد الإسرائيلي عندما وصل إلى قصر مبارك في الإسكندرية، حظي الحاخام عوفاديا بحفاوة بالغة، ونفى أمامه مبارك عزمه على الإضرار بالمقابر اليهودية، مستدلا على ذلك بدعوته الحاخام الرئيسي الإسرائيلي لزيارة مصر من أجل إخراج الجثث بطريقة محترمة دون المساس بها، وأكد الحاخام عوفاديا له أنّه وفقا للشريعة اليهودية لا يجوز إخراج الموتى من قبورهم، ولذلك اقترح بناء جسر فوق المقبرة، وهو ما نفذه مبارك بالضبط.
أنقذ الرئيس المخلوع حسني مبارك مقابر الطائفة اليهودية من الهدم قبل ثلاثين عاما بينما لم تجد مقابر الطائفة المسلمة من ينقذها اليوم من معاول الهدم من أجل إنشاء طريق لا تصل أهميته بأي حال من الأحوال إلى الطريق الدائري.
لم يكن مبارك الوحيد الذي تعامل بهذا الشكل مع مقابر اليهود في مصر، إذ إن الحكومة المصرية في عهد الرئيس السيسي أعلنت عزمها على ترميم الآثار اليهودية في البلاد وأنها بصدد تسجيل مقابر اليهود بالبساتين كأثر تاريخي.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أطلقت السفارة الأميركية بالقاهرة مشروعا للحفاظ على "تراث مقابر اليهود بمنطقة البساتين، جنوبي القاهرة"، التي تضم عددا من أقدم مقابر اليهود في العالم، وذلك بتمويل من صندوق سفراء الولايات المتحدة للحفاظ على التراث الثقافي.
وخصص السلطان أحمد بن طولون موقع إقامة هذه المقابر قبل أحد عشر قرنا، في منطقة تضم أراض زراعية ممتدة، كانت تسمى آنذاك "بساتين السلطان".
وجاء الإعلان عن هذا المشروع بعد أقل من شهر على ترميم وإعادة افتتاح المعبد اليهودي بمدينة الإسكندرية، بعد إغلاقه لعدة سنوات. وتحملت الحكومة المصرية كلفة ترميم ذلك المعبد، والتي بلغت 70 مليون جنيه (نحو أربعة ملايين دولار)، بعدما رفضت تلقي أي تبرعات من الجاليات اليهودية في العالم لهذا الغرض.
وعن توقيت إعلان السفارة الأميركية عن مشروع الترميم والحفاظ التراثي على مقابر البساتين، قالت المشرفة على المشروع لويز بارتيني، في تصريحات صحافية، إن "الوقت مناسب" لتزامنه مع دعم واضح من الحكومة المصرية والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، "الذي يريد أن تظهر بلاده بالغنى الحضاري والتنوع الثقافي". ويرى البعض أن ذلك المشروع يأتي في ظل تقارب بين حكومة السيسي ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
وتضم هذه المقبرة رفات عدد من اليهود، ومنهم يعقوب بن كلس، أشهر الوزراء اليهود للخليفة المعز لدين الله الفاطمي، الذي تولى الخراج والضرائب في مصر.
ومن أشهر مدافن العائلات اليهودية في مقابر البساتين "حوش يوسف قطاوي باشا"، وبغض النظر عن قيمته الفنية، فهو مرتبط بشخص مصري "له دور في تاريخ هذا البلد، وهو محل اهتمام بلا شك".
وساهمت عائلة قطاوي في بناء معبد اليهود في شارع عادلي، وسط القاهرة، كما عارض يوسف أصلان قطاوي، حينما كان رئيسا للطائفة اليهودية في مصر، مشروع الهجرة إلى إسرائيل، ودعا لاندماج اليهود في المجتمع المصري.
ومؤخرا نفذت محافظة القاهرة حملة مكبرة لتطهير مقابر اليهود بالبساتين من القمامة والمخلفات، حيث رفعت أجهزة المحافظة ما يقرب من 5 آلاف طن من المخلفات حتى الآن، ومن المقرر أن تنفذ المحافظة مرحلة أخرى من النظافة بالمقابر لرفع تلال الرتش المتراكمة داخل المقابر بالقرب من الطريق الدائري وتقدر بآلاف الأطنان.