صمت وترقُّب وخشبة مسرح معتمة. دقائق معدودة ويبدأ المشهد. يدان تمتدّان تحت بقعة ضوء صفراء وسط الخشبة، يرافقهما صوت يعلو بوصايا جان جينيه للبهلوان: "اخرج ميتاً، وأظهر لجمهورك الصغير شبحك التلقائي وغير النمطي فوق الخشبة، ثم ارقص فوق الحبل وواجه مصيرك الأخير (الموت) من علٍ، من فراغك وجاهزيتك له، أعدْ نفسك قوياً، ومبهِراً، واجعل سقوطك الأخير دهشة للجماهير أمامك. يفصل بين وجودنا من عدمه حبل، إذ علينا أن نواجه مخاوفنا وقطيعتنا مع عدم فهم الموت برحابة أكبر".
الفقرة أعلاه من العرض المسرحي القصير (50 دقيقة) لنصّ "البهلوان" أو "الراقص على الحبل" للكاتب المسرحي الفرنسي جان جينيه (1910 - 1968) الذي يقدمه الممثل والمخرج المغربي هشام شكيب، على خشبة "قاعة صمويل بيكيت" في طنجة.
نصّ "البهلوان" مشحون بالدلالات والرموز التي تميز عالم جينيه. ونظراً إلى صعوبة النص وزخرفته الشعرية العالية، فقد حاول المخرج، وهو ممثل النص أيضاً، إيجاد حلول مسرحية توصله للمتلقي من دون أن تمس بصعوبة عالم جينيه، فجمع بين سهولة الوسيط وصعوبة النص.
الكلمات في نصوص جينيه، سواء في "البهلوان" أو "يوميات لص" أو "عاشق أسير"، ذات أثر على المتلقي، والقيم التي يتفق الجميع في الحكم عليها، ستكون على النقيض من ذلك في عالم جينيه. الغش والخداع واللصوصية كلها فضائل لاهوتية بالنسبة إليه، هو الذي رفض الإيمان، وجعل عالمه الخاص مزيجاً من المسرح والكتابة كأنه نبيّ نفسه، زاهد، رفض المبدأ المادي ليعيش حرية مطلقة من كافة الأعباء حتى الاجتماعية منها. جرأته وصراحته هي طريقته في العيش، وهويته الجنسية (المثلية) كانت إحدى طرق تعريفه بنفسه.
"كلما شدّني النص للوراء كلما نويت تقمصه"، يقول شكيب. "حاولت قدر المستطاع أن أبقى حاضراً خلف النصّ، وليس أمامه. قوّته خلقت لي صراعاً، وكان لزاماً عليّ أن أخلق نوعاً من التعايش بين النص وتقنيات الإخراج والتمثيل. كما ركزت على الاشتغال على الموسيقى والحوارات الداخلية، أي الذاتية لنص جينيه".
يعتبر شكيب نفسه خادم النصّ، ويوضح أن ذلك يعني "أن تقدّمه باحترام وعناية للجمهور، أن تبرع في التنقل بين الكوميديا والتراجيديا، أن تذهب مع جينيه إلى أبعد حدّ في التساؤلات الداخلية والهروب للانطباعية ثم الوجودية. كل هذه الشروط التي وضعتها لخدمة النص حتّمت عليّ أن أخلق آليات تواصل بينها وبين المتفرج، سيما وأن جينيه كان يعاني من فكرة التواصل بينه وبين الناس بعد أن نبذه مجتمعه وسخر منه، وحاول فهم مشكلته واحتواءها بالكتابة. نص "البهلوان" ليس نص وصايا للعب أو الرقص ضد الموت: جينيه كان يواجه الموت بالكتابة؛ كُتب ضده آلاف الجمل".
جينيه، الذي انزلق ومات وحيداً في الحمّام في باريس، صرع الحياة فعلياً بعدما صارعته ورمت به على حفاف الطرق والجوع والخواء المادي والعاطفي. التقط الموت وشمّ رائحته من السجون التي دخلها مرات عدة. من هناك انبثقت تعابيره المعجزة، ولكنّ الموت ظل شبحاً أسود. وهذا ما حاكاه شكيب من خلال لباسه الأسود على المسرح، موظِّفاً المؤثرات الضوئية، إلى جانب المؤثرات الصوتية كاستخدام المايكروفون، دلالة على أن صوت جينيه لم يكن مسموعاً إلّا بمخاطبة الناس به، بالكلمة، بالمسرح، بالقصائد، بالمذكرات، وليس بالصوت العادي والطبيعي.
فقد واجه جينيه مشكلة في التواصل بسبب اختلاف عالمه. أما المؤثر الأخير في نهاية العرض، فكان صوت جينيه في مقابلة صحافية يشرح فيها لماذا يكتب.
"المحكوم بالإعدام" كان صاحب "معجزة الوردة". هذا الخيار الوحيد (الكتابة) كان السبب في منحه حبل "البهلوان"، ليبقى أثيره خالداً في "أسير عاشق" وفينا.