جان بول سارتر.. لم يبق الكثير من الرجل

21 يونيو 2020
(سارتر في مكتبه، 1970/ Getty)
+ الخط -

بعد مرور أربعين عاماً على رحيل جان بول سارتر (21 حزيران/يونيو 1905 -1980) لم يبق الكثير من الرجل: لم تعد الوجودية التي يجري اختزال تعريفها بأنها "فلسفة تؤكد الوجود الفردي والحرية والاختيار، والتي تنطلق من وجهة النظر القائلة إن البشر يحدّدون معناهم في الحياة، ويحاولون اتخاذ قرارات عقلانية على الرغم من وجودهم في عالم غير منطقي"؛ تهمّ الكثير من الدارسين والمنشغلين بالفلسفة وتياراتها، وكذلك فقد كثيرون الشغف تجاه إعادة قراءة أعماله الأدبية.

ولربما ظل كتاب "الوجود والعدم" هو الكتاب الوحيد له الذي ما زال يشغل قليلاً بعض الدارسين، ولكن يمكننا القول أيضاً، إنه لم يعد هناك من يعلن نفسه كسارتري، أو ينتمي للتيار الفكري الوجودي السارتري هذه الأيام، على عكس شريكة حياته سيمون دي بوفوار، التي لا يزال عملها "الجنس الثاني" تُعاد قراءته واستدعاؤه وتحديداً في الحملات النسوية المستجدة.

يمكن تفسير عزوف الأجيال اللاحقة عن استدعاء الرجل، الذي عُدّ في ما مضى شخصية أسطورية في القرن العشرين، إلى أن فلسفته كانت مبالغة في التأمل، كثيرة الجدل، ولكون بعض مرتكزاته الفلسفية والسياسية قد فقدت مصداقيتها مع التحولات التي عصفت بالعالم منذ أكثر من نصف قرن وبالمقارنة بما كانت عليه وقت وفاته، ناهيك عن خلافاته الكبيرة مع مجايليه وتحديداً ألبير كامو الذي لم يخفت بريقه حتى أيامنا الحالية.

عاش صاحب "نقد العقل الجدلي" (1960)، الذي يصادف اليوم ذكرى ميلاده، مرحلة وردية مع المثقفين العرب المعاصرين بدءاً من نهاية الأربعينيات وحتى أواخر الستينيات، وجّهت فلسفة جان بول سارتر ووصفاته السياسية جانباً من أفكار المشروع التحرري العربي. واعتبرت شريحة واسعة من مثقفي المنطقة أن أفكار سارتر غنية وذات مغزى وملائمة لاحتياجاتهم لدرجة قيامهم بترجمة كل ما قاله وكتبه الرجل خلال هذه السنوات إلى اللغة العربية.

أُعجب "رائد الوجودية الملحدة" بالمشروع الثوري العربي. وبادله المثقفون العرب الإعجاب بأفكاره المعادية للاستعمار، وهي أسس فكرية وأيديولوجية ربطت العالم العربي بالعولمة والنضالات الكبيرة في الستينيات، حملت هذه الأفكار إلى العرب عبر مجموعة من المفكرين الثوريين الشباب مثل فرانتز فانون وإيمي سيزير وليوبولد سنغور، والعديد غيرهم الذين جسّروا الهوة بين ما كان يجري على الساحة العربية والتحوّلات الأيديولوجية في أوروبا لا سيما أوروبا ما بعد الحرب. طوّر هؤلاء المثقفون معًا أسس التفكير بعد الاستعمار والنظرة إزاء العرق والاختلاف وكذلك المفاهيم الملموسة مثل الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الجديد. لم تكن هذه مجرّد أفكار باردة بل سياسات ترجمت إلى حالة ثورية من أجل التحرّر في مناطق كوبا والكونغو وفيتنام وروديسيا وبالطبع الجزائر، كان صوت سارتر في المشهد الأوروبي الأيديولوجي عالياً الأمر الذي نقله بسرعة كأحد المنظرين الذين يعتدّ برأيهم في كل ساحات العالم.

لكن حين وصل الأمر إلى قضية فلسطين، كان صمت صاحب "تخطيط لنظرية الانفعالات" (1939) مُحيّراً، كيف يمكن للشخص الذي ساهم في صياغة جلّ الأسس الفكرية لمحاربة الاستعمار في العالم العربي - الذي روّج عبارة "البديل الموضوعي" للاستعمار - ألا يحسم موقفه من الحركة الصهيونية في فلسطين التي لم ترتكب بحقها فظاعات أقل مما ارتكبه الفرنسيون في الجزائر والبريطانيون في روديسيا؟

بقيَ سارتر في حالة تشبه ادعاء الحياد، أو الوقوف في منتصف طريق رأس التناقض، بين الشعب الفلسطيني، ضحية الاستعمار الجديد، و"إسرائيل" بوصفها الحالة الاستعمارية الجديدة، فيما ذهبت شريكته سيمون دي بوفوار، إلى إعلان انحيازها الكامل لـ "إسرائيل"، ليبدو الأمر في نهاية الأمر كتواطؤ غير معلن بين الشريكين.

مثّل حياد سارتر الملتبس إزاء أحد أهم قضايا التحرير الوطني موقفاً غريباً بالنسبة لفيلسوف الالتزام الأول. الأمر الذي دفع العرب إلى تفسير موقفه على أنه تأييد للصهيونية، كما تم تفسير صمت ألبير كامو من الاستعمار في الجزائر، وهو الموقف الذي أغضب سارتر نفسه واعتبره تأييداً ضمنياً من كامو للجيش الفرنسي. يُجمع كثيرون أن سَقطة سارتر وجهت ضربة إلى "الوجودية العربية" وأسهمت في تلاشيها.


* كاتب من فلسطين

المساهمون