تمثّل الحقيقة إحدى أبرز الإشكاليات التي شغلت ميشيل فوكو (1926 - 1984) خلال مساره الفكري؛ إذ لا تكاد غالبية أعماله - من "المرض العقلي والشخصية" (1954) حتى "الانشغال بالذات" (1984) - تُبارح سؤال الحقيقة، وإن كانت تستعيده في صياغات وسياقات مختلفة.
غير أن تناول الفيلسوف الفرنسي لهذه الإشكالية لا يمثّل امتداداً لأبرز التوجّهات والمسارات النظرية التي بنتها الفلسفة والعلوم الغربية حولها؛ فهو لا يتناولها بوصفها معياراً، بل باعتبارها سلطةً، كما يقول جورج كانغيلام؛ أي أنه يبتعد مسافة شاسعة عن الفهم التقليدي، العلمي العقلاني، الذي يرى في الحقيقة مفهوماً كونياً مُطلقاً وتطابقاً بين الوصف والواقع، ليحلّلها بوصفها مفهوماً تاريخياً وسياسياً خاضعاً للمصلحة قبل كلّ شيء.
بقراءةٍ كهذه، لا يُبقي فهم فوكو للحقيقة إلّا على خيط واحد يجمعه بالتراث الفلسفي الغربي، أو، بالأحرى، بالتراث المضاد لهذا التراث: نيتشه. إذ تجد أطروحته جذورها في مشروع معلّمه الألماني الذي كان أوّل من نقل حيّز التساؤل، في الفلسفة الغربية، من السؤال الماهوي: "ما الحقيقة؟" إلى السؤال السياسي التاريخي: "مَن يريد الحقيقة؟". ويمكن القول، بمعنى ما، إن تجربة فوكو تشكّل محاولةً للإجابة عن هذا السؤال أو، ربما، لإعادة طرحه.
في كتابه "نيتشه ضد فوكو: عن الحقيقة والمعرفة والسلطة" (منشورات "أغون" في مرسيليا)، يُناقش المفكّر الفرنسي، جاك بوفريس، أستاذ فلسفة اللغة والمعرفة في "كوليج دو فرانس"، أطروحة فوكو التي تجعل من الحقيقة، ومعها المعرفة، مفهومين لا يمكن فصلهما عن السلطة. وفي الواقع، يكفي أن يكون المرء على اطّلاع، ولو ضئيلٍ، على أعمال بوفريس لتكون لديه فكرة عن محتوى كتابه، ذلك أن اشتغاله الفلسفي (المنطقي العقلاني) يتموضع على النقيض تماماً من اشتغال زميله/ غريمه فوكو، الذي قضى حياته في مساءلة العقلانية والعلم.
فما يُعدّ أساسياً في مشروع الأوّل يعتبره الثاني ثانوياً، وما ينشغل الثاني في نقده يستبسل الأوّل في الدفاع عنه. وتُعدّ كتب بوفريس التي يؤلّفها منذ 1984، في نقد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، ومن بينهم فوكو، مثالاً على هذا التضارب بينهما.
يتألّف الكتاب من مقالين، يمثّل أوّلهما ما يُشبه مدخلاً إلى الإشكالية. أمّا الثاني، الذي يُشكّل الجزء الأكبر منه، فيقدّم ملاحظات حول مشكلة الحقيقة لدى نيتشه وحول فوكو قارئاً نيتشه. ويسعى بوفريس، عبر اختياره فلسفة نيتشه أرضيةً للسجال بينه وبين فوكو، إلى تقديم ردّ مزدوج وحازم على فلسفة فوكو التي تنبني، بشكل كبير، على أعمال نيتشه. ردٌّ يسعى إلى إظهار "بُطلان" فلسفة فوكو عبر البرهنة على "فساد" الأساس الذي تقوم عليه، أي قراءتها لنيتشه.
نقطة الاختلاف الأبرز التي يتوقّف عندها العمل تتمثّل في ما يراه بوفريس استخداماً منحرفاً أو غامضاً من قبل فوكو لمفهوم الحقيقة؛ إذ لا يُفرّق الأخير، بحسبه، بين الحقيقة وبين ما يمكن اعتباره حقيقياً، أي بين المفهوم في ذاته وبين حضوره أو الإيمان به.
ويرى أن استخدامات فوكو للمفهوم، في عبارات مثل "القول - الحق" و"تاريخ الحقيقة" و"إنتاج الحقيقة" و"سياسة الحقيقة" و"ألعاب الحقيقة"، تتأتّى من الخلط بين المعنيَين المذكورَين؛ إذ يتعامل مع "المقبول كحقيقي" و"المعتقد بأنه حقيقي" بوصفه "الحقيقة"؛ أي أنه يعمّم تجربة النسبي والتاريخي على المطلق، ليستخلص من ذلك نسبية المطلق نفسه.
غير أنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، كما يقول بوفريس، أن نكتب تاريخاً، بالمعنى التقني للكلمة، لمفهوم الحقيقة. إن ما نجده في نهاية بحثنا عن تاريخ الحقيقة ليس، كما يقول، إلا تاريخ علاقتنا بها واستخدامنا لها، إذ لا تاريخ لمفهوم مجرّد في ذاته.
يرى بوفريس أن قراءة فوكو لصاحب "أفول الأصنام" انتقائيةٌ ومشوّهة للفكر النيتشوي "الحقيقي"، ذلك أنها تقتصر، من وجهة نظره، على أعمال الفيلسوف الشاب، ولا تأخذ بعين الاعتبار كتاباته المتأخّرة التي يراجع فيها مقولاته السابقة، ومن بينها مقولاته حول الحقيقة.
وإذ يبرهن بوفريس على صواب محاججته، عبر ملاحظات متتالية حول أعمال نيتشه المتأخّرة، فإنه يسعى إلى سحب بساط السند النظري-المرجعي من تحت الاشتغال الفوكوي، أي أنه يريد أن يقول إن فهماً أو تأويلاً خاطئاً هو الأساس النظري والمعرفي لغالبية أعمال فوكو حول الحقيقة، وإن هذه الأعمال ليست، بالتالي، إلا عبثاً لا قيمة معرفية له. فهي محاججات مبنية بالأساس على مغالطة منطقية.
هكذا، يضرب المنطقي الفرنسي طيرين بحجر واحد. فهو يستعيد نيتشه "المشاغب" إلى ملعب العلم و"الفلسفة الصارمة" المُبعَد عنهما، ويُظهِر فوكو، في الوقت نفسه، كشكّاكٍ ومفرط بالتهديم العبثي الذي يتجاوز، بأشواط، تهديم نيتشه نفسه.
لكنْ رغم اتّساقه وتحلّيه بالوضوح والدقة، يظلّ تفنيد بوفريس لمقولات فوكو موضع نقاش؛ إذ ينطلق من عدد من الافتراضات الخاصّة به حول فلسفة فوكو، ليخلص منها إلى نتائج تبدو منطقية حول بُطلان هذه الفلسفة.
غير أن هذه العملية "المنطقية" تستوجب المساءلة. إذ أننا لا نملك أدنى يقين حول مدى وثاقة العلاقة بين افتراضات بوفريس وبين فلسفة فوكو، أي أن المقدّمات، التي ستُعطي في ما بعد نتيجة منطقية، ليست على درجةٍ أكيدةٍ من التعبير عن فحوى فلسفة فوكو، هذا إن لم تكن مشوِّهةً لها. وبالتالي، فإن ما يُبخس حقُّه في هذه "المحاججة المنطقية"، بين مقدّماتها ونتيجتها، هي فلسفة فوكو نفسها.
إن بوفريس يقوم بما يلوم فوكو على فعله مع نيتشه، أي أنه يجتزئ فلسفته. ذلك أنه يصرّ على قراءتها بمنظار واحد، هو منظار الوضعية المنطقية. غير أن هذا المنظار يعجز، كما هو بادٍ، عن استيعاب فلسفة فوكو، بسبب من عدم توافق عدسته مع طبيعتها، أو بسبب من ضيق في حقل رؤيتها. إننا نسمح لنفسنا بهذا التشبيه الأخير رغبةً في القول إن الأدوات المعرفية التي يصرّ بوفريس على استخدامها لقراءة فوكو تبعده عن فلسفة الأخير بدلاً من أن تقربه منها.
مثلاً، يفترِض بوفريس إمّا عدم فهم فوكو للفرق بين الحقيقة في ذاتها وبين الحقيقي، وإما عدم رغبته في إعلان معرفته أو تسليمه بهذا الفرق، رغبة منه بالاحتفاظ بقاعدة إبيستيمولوجية لأبحاثه التي تقوم أساساً على ضرورة عدم التمييز بينهما.
وإذا كان الافتراض الأول من السذاجة بحيث لا يستحق التوقف مطوّلاً عنده، لأنه يقوم على الاعتقاد بجهل فوكو بأحد المعطيات الفلسفية المدرسية، فإن الافتراض الثاني يعبّر تماماً عن عدم رغبة بوفريس في قراءة فلسفة فوكو، ولو لمرّة، انطلاقاً من فهم هذه الفلسفة لموضوع بحثها. إذ يتوقف فهمه لتعامل فوكو مع الحقيقة عند رغبة الأخير الشخصية في تضليل القارئ والحفاظ على الغموض اللازم لفلسفته كي تصل إلى درجة من التناسق والإقناع. لكنْ، كان ليبدو أكثر "صرامة" -إذا ما أردنا الحديث بعبارات بوفريس نفسه- لو حاول الأخير الذهاب أبعد من هذا الافتراض، لفهم مقاصد فوكو.
إن ما يدفع فوكو للإمساك عن الإدلاء بحكم حول التمييز بين الحقيقة والحقيقي متأتٍّ، في رأينا، من تماهي الاثنين تماماً في موضوع بحثه: كيفية وظروف وشروط ظهور الحقيقة واستخدامها في فترة تاريخية معينة، وفي مجتمع معيّن. أي أن الحقيقة التي يدرسها لا تتمظهر، تاريخياً، ولا تقدّم نفسها إلا بوصفها الحقيقة الحقّ، وإن كانت، رغم ذلك، نسبيةً وتاريخية. وتعدّ الحقائق العلمية، وكذلك الدينية والسياسية، أمثلة جيدة على ذلك.
إن سؤال فوكو حول الحقيقة لا يمكن طرحه، أو العثور على جواب له، في حقل المنطق أو نظرية المعرفة، الذي يتشبّث به بوفريس. ذلك أن المنطق ونظرية المعرفة غير قادرين على تجاوز شكلانيّتهما؛ بينما يتعلق السؤال، سؤال فوكو، بالفحوى والمحتوى. محتوى تاريخي، سياسي، من لحم ودم، ومن صراع وهزائم وانتصارات، لا يكفّ عن التمرّد على الشكل، وعلى إعادة التشكّل، بل وحتى على إفراز أشكال جديدة من المعرفة والعلم والمنطق وحتى من الحقيقة نفسها.