جارور الذاكرة

13 يونيو 2017
ذكريات لها رائحة الورق العتيق (رسم: فؤاد هاشم)
+ الخط -

أنهيت أسبوعاً من العمل، لم يكن شاقاً، بل كان مملاً وطويلاً. خلاله كنت أستيقظُ صباحاً لأنهي حاجاتي من تحضير الطعام إلى الرد على الرسائل المكتوبة والصوتية وأشياء أخرى إلى أن يحين موعد دوام الوظيفة.

أعود في المساء وأنهي ما بدأته صباحاً، وتجهيز حاجيات اليوم التالي. أرسل بعض الرسائل الصوتية والمكتوبة، وأتوقع رداً عليها في صباح اليوم التالي. أتابع بعض البرامج التلفزيونية. أحضّر وجبة العشاء المعتادة، لأحاول أن أخلد إلى النوم بعد ذلك.

أتحوّل إلى مجرّد آلة من دون إرادة أو ذاكرة. أكرّر الواجبات نفسها، بشكل ميكانيكي، كل صباح ومساء. يحدثُ ذلك إلى أن يحين موعد العطلة الأسبوعية. في أغلب الأحيان أبقى في المنزل لتنظيفه وترتيبه، من بعد الأعاصير التي تكون قد اجتاحت أرجاءه، أو أترك كل ذلك الخراب خلفي، وكأن شيئاً لم يكن، وأتجه إلى قريتي لتمضية يوم أو يومين مع الأقارب وبعض من بقي من أصدقاء الطفولة. وفي أغلب الأحيان أنعزل في منزل العائلة عن كل ما يربطني بالعالمين الواقعي والافتراضي.

بعد أن أغلق الباب وأصبح وحيداً بين الجدران، وقبل الانطلاق في عزلتي، أخلع عني كل الأشياء التي حملتها معي من المدينة. أستعيد ذاكرتي تدريجياً، كمن ينفض الغبار عن كتاب لم يتحرّك عن الرف منذ زمن. وفي كل مرة أختار ركناً مختلفاً للاسترخاء أو نبش الأشياء القديمة من مخابئها إلى أن أصل إلى جارور موجود في أسفل مكتبة المنزل، مكدّس بصور محفوظة بطريقة عشوائية، لمراحل منذ ما قبل ولادتي بفترة طويلة.

يشبه هذا الجارور آلة الزمن الموجودة في الأفلام، فلكل صورة حكاية. صور لوجوه عفوية، مبتسمة، حزينة أو غير مبالية بآلة التصوير وحاملها. منها الأبيض والأسود، ومنها ما وصلت إليه الألوان. الصور المطبوعة والمسحوبة من خلال أفلام "كوداك" المعروفة وقتها، لها خاصيتها، بخلاف الصور الرقمية لهذا الزمن، والتي هي في أغلب الأحيان مصطنعة.

أغوص في تفاصيل الصور، أدخل بين شخصياتها، وأنطلق إلى رحلة في ماضٍ لم أعرفه. أتحدّث مع أبطال الصور. أشاركهم ابتساماتهم وأحزانهم. أخرجهم من صورهم لندخل معاً في صور أخرى. أُعيد بعثرة الصور من جديد. أخلط الملوّن بالأبيض والأسود، وأعيدها إلى الجارور مبعثرة، كما كانت، لأعود إلى عزلتي التي تكاد تنتهي.

أستيقظ في اليوم التالي، وقد عدتُ آلة تقوم بواجباتها المعتادة. ألملمُ أشيائي التي أتت معي، وأعود إلى عالمي الافتراضي والواقعي. لكن هذه المرة مع ذكريات لها رائحة الورق العتيق.


المساهمون