ثورة 1919 والحقبة شبه الليبرالية في الذاكرة الوطنية المصرية

18 يونيو 2017

سعد زغلول.. شعبية جارفة في ثورة 1919(1920/فرانس برس)

+ الخط -
منذ نهاية القرن التاسع عشر، تبلورت أهداف الحركة الوطنية المصرية في شعارها الأثير "مصر للمصريين" الذي رفعته في مواجهة قوى الاستبداد، والاستعمار، ومثّل أساس الجامعة الوطنية، حيث مزج بين المطالبة بالاستقلال والديمقراطية، وهدف إلى انتزاع المصريين حقوقهم في إدارة شؤون بلادهم بأنفسهم، واستئثارهم بالسلطة والثروة في وطنهم، عبر تحرير الإرادة الوطنية من التبعية للنفوذ الأجنبي.
بعد إجهاض الثورة العرابية كليّا، وسقوط البلاد في براثن الاحتلال البريطاني، ظهر الزعيم الوطني، مصطفى كامل باشا، الذي بعث الحركة الوطنية من سُباتها، وأحيا مسيرة النضال الوطني، مُستنهِضاً إرادة المصريين لمواجهة الاحتلال البريطاني، إلا أنّ القدر لم يمهله طويلاً، فسرعان ما رحل بعدما حرث التربة الوطنية، ومهّد الطريق لمن بعده. ثمّ اندلعت الحرب العالمية الأولى في العام 1914، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر رسميا، وفرضت الأحكام العرفية على البلاد، كما فرضت الرقابة على الصحف، وخلعت الخديوي عبّاس حلمي الثاني.

حالة ثورية
وفي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1918، وضعت الحرب أوزارها وعُقدت الهدنة. وقبل إعلانها بساعات قليلة، تقدّم سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية، وزميلاه عبد العزيز فهمي بك، وعلي شعراوي باشا، بطلبٍ لمقابلة المندوب السامي البريطاني، السير ونجت، لطلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن، لعرض مطالب الأمّة المصرية. وجرت المقابلة في 13 نوفمبر/ 1918، اليوم الذي مثّل حدثاً مفصلياً في تاريخ مصر الحديث، حيث رفع ثلاثتهم فيها مطالب الأمّة المصرية إلى المندوب السامي، بإنهاء الأحكام العرفية، وإلغاء الرقابة على الصحف، فاستنكر ونجت أن يتحدّث ثلاثة رجال باسم الأمّة كلها. وبعد المقابلة، اتفقوا على تشكيل هيئة باسم "الوفد المصري"، وعلى صياغة توكيل يوقّع عليه بعض الخاصة من ذوي المواقع والصفات الرسمية، ثمّ اتسع نطاقه ليشمل أفراد الأمّة المصرية كافة. وجرت على المسرح السياسي، إثر هذا، تفاعلات وتجاذبات عديدة بين القوى الوطنية (النخبوية والشعبوية) وسلطات الاحتلال. وتصاعدت الأحداث، حتى ألقت سلطات الاحتلال البريطاني القبض على سعد زغلول وثلاثة من رفاقه، محمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا، في 8 مارس/ آذار 1919، ليتمّ نفيهم إلى جزيرة مالطة، وكانت الخطوة بمثابة فتيل التفجير لثورة 1919.

فتيل التفجير
في 9 مارس/ آذار 1919، وبعدما ذاع خبر القبض على سعد زغلول ورفاقه، انطلق
المصريون ليسطّروا ملحمةً جديدة في تاريخ نضالهم، وانفجر بركان الغضب الشعبي في مواجهة القوة العظمى الأولى حينذاك، ممثّلة في الاحتلال البريطاني، منطلقاً من العاصمة، وسرعان ما صبّ حُمَمه المُلتهبة في الأقاليم، لتعمّ مظاهر الاحتجاج كل أرجاء القُطر المصري، من الإسكندرية إلى أسوان. وتنوّعت مظاهره من المظاهرات إلى الإضرابات إلى قطع خطوط المواصلات وتعطيل وسائل الاتصالات (خطوط البرق والبريد والهاتف).
وقد اضطلع الأزهر بدور كبير خلال الثورة، بعدما تحوّل إلى واحدٍ من معاقلها. وكان كما روى الدكتور عماد أبو غازي، ساحةً رئيسيةً من ساحات الخطابة في أثناء الثورة، يتجمّع فيه خُطباء الثورة، ويحتشد داخله جموع المصريين، بغضّ النظر عن دينهم. ووفقاً لرواية عبد الرحمن الرافعي، استدعت، في 2 أبريل/ نيسان، دار الحماية شيخ الجامع الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، وطلبت منه غلق أبواب الأزهر، فرفض بشدّة، مُحتجّاً بأنّه مسجد تُقام فيه الصلوات، ولا يُمكن أن يغلق أبوابه أمام المُصلّين، فطلبت منه فتحه في مواقيت الصلوات الخمس فقط، فرفض، وأصرّ على أن يظلّ مفتوحاً في كل وقت.
وبعد نحو شهر من ثورة المصريين المشتعلة، وعدم اكتراثهم بالإنذارات والتهديدات البريطانية التي تطوّرت إلى قمع وحشي، بدأ بإطلاق النار على المُتظاهرين، وانتهى بمحاكماتٍ عسكرية في الشوارع، وإزاء اتساع نطاق الثورة وعجزها عن إخمادها، رضخت سلطات الاحتلال البريطاني لإرادة المصريين، وقررّت الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه في 7 أبريل/ نيسان، وفتح أبواب السفر إلى أوروبا أمام المصريين.

نجاح أم إخفاق؟
وتعد ثورة 1919المجيدة أفضل الثورات في تاريخ مصر الحديث، فقد قدّمت نموذجاً رائعاً للثورة الشعبية التي جمعت المصريين على اختلاف عقائدهم، وطبقاتهم، وفئاتهم، وأجيالهم، مُجتَمعِين خلف المطلبيْن اللذيْن رفعتهما الحركة الوطنية المصرية منذ نهاية القرن التاسع عشر: الاستقلال والدستور. ولكن، هل نجحت في تحقيق أهدافها؟.
تمّخضت ثورة 1919 عن قيادة ثورية ممثّلة في "الوفد"، وزعامة شعبية حقيقية، ممثّلة في الزعيم الوطني سعد زغلول باشا الذي حاز شعبية كاسحة جارفة، بطول مصر وعرضها في أعقاب الثورة. وكان مشهد استقبال جموع المصريين له لدى عودته إلى مصر من باريس، بعد غياب دام العاميْن منذ نفيه إلى مالطا، مشهداً تاريخياً مهيباً بحقٍّ، في 4 أبريل/ نيسان 1921 في الإسكندرية، وعلى طول طريق القطار إلى القاهرة، ثمّ في شوارع القاهرة حتى بيته، بسلسلةٍ من الأفراح والزينات والحفلات، وهو استقبالٌ، بإجماع المؤرّخين، لم يُتَح لفاتحٍ من الفاتحين، أو ملكٍ من الملوك، في أي عصرٍ في تاريخ مصر، حسب تعبير عبد العظيم رمضان.
أنشأ سعد زغلول حزب الوفد الذي مثّل، حينذاك، رأس حربة الحركة الوطنية المصرية،
ليكون، حسب تعبير المؤرّخ طارق البشري، "تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية لثورة 1919، الذي استطاع أن يجمع المصريين، ويستوعب نشاطهم وطموحهم الوطني والحضاري، وحققّ بذلك أسمى ما يمكن تحقيقه في إطار ما تتيحه الظروف التاريخية، والذي أسهم بتكوينه الجامع في تكوين الجامعة المصرية".
وكان "الوفد" الحزب السياسي الحقيقي الوحيد في تاريخ مصر الحديث، حيث تمكّن من التمدّد والتشعّب بلجانه في طول البلاد وعرضها، بحَضَرها وريفها، وتمثّلت نقطة قوّته الرئيسية في أنّ تأسيسه لم يكن بقرار "فوقي" سلطوي، أو نخبوي منعزل عن الشعب، وإنّما استجابة لرغبة شعبية ووطنية جارفة، كما أنّه كان بمثابة "جبهة وطنية"، ضمّت شتّى القوى السياسية والاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919، وعكست تشكيل الأمّة المصرية بأسرها، فقد ضمّت صفوفه المسلمين والأقباط، وكبار الملّاك من الباشوات إلى جانب العمّال، والحَضريين والريفيين، والمُثقّفين والفلّاحين.
قدّمت ثورة 1919 نموذجاً بديعاً ومُلهِماً لدول العالم الثالث التي ترزح تحت نيّر الاستعمار، فقد كانت مثالاً يُحتذى للثورة الشعبية التي رفعت راية التحرّر الوطني في وجه الاحتلال الأجنبي. وقد روى المؤرّخ الراحل عبد العظيم رمضان عن لقاءٍ لأحد كبار المصريين بالزعيم الهندي، المهاتما غاندي، في لندن عام 1921، والذي قال له: "قلّدنا سعد زغلول في حركته الوطنية... قلّدناه في تأليف الحزب من طبقات، كلّما اعتقل الإنجليز طبقة حلّت محّلها طبقة أخرى، ولكننا فشلنا في أمريْن، توحيد الهندوس والمسلمين، كما وحّد سعد بين الأقباط والمسلمين، وإضراب الموظّفين".
وعلى الرغم من عظمة ثورة 1919، إلا أنها حققّت نجاحاً جزئياً، لا كلياً، بالحصول على استقلالٍ شكلي منقوص بتصريح 28 فبراير/ شباط 1922 الذي رفضه سعد باشا رفضاً قاطعاً، وبصدور دستور 1923، وكان الانقسام الذي ضرب صفوف النُخبة السياسية السبب الرئيسي في نجاحها الجزئي، فقد انقسمت قيادة "الوفد" إلى المُعتدلين "العدليين" الذين توّقف سقف طموحهم عند رفع الحماية، والمتطرِّفين "السعديين" الذين كانوا ينشدون الاستقلال التام.
أجريت، في العام 1924، أول انتخابات برلمانية بعد صدور دستور 1923، وقد اتسمت بقدرٍ كبير من النزاهة، بشهادة مؤرّخين عديدين، وقد اكتسحها "الوفد" اكتساحاً، كما شهدت واقعةً تاريخية فريدة، لم تتكررّ مطلقاً، عندما سقط يحيى إبراهيم باشا الذي كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك في دائرته الانتخابية أمام مرشّح "الوفد" الذي كان أحمد مرعي "أفندي"، في دليل ناطق على مدى نزاهة تلك الانتخابات.
وكانت الفترة من 1924 وحتى انقلاب "الضبّاط الأحرار" في يوليو/ تموز 1952 حافلة بالصراع بين "الوفد"، ممثّل الحركة الوطنية المصرية والسلطتيْن، الشرعية ممثّلة في القصر والفعلية ممثّلة في الاحتلال، فلم يحكم "الوفد"، كان حزب الأغلبية آنذاك، خلال تلك الفترة سوى سبع سنوات و9 تسعة أشهر بصورة مُتفرِّقة، كما لم يُطبق دستور 1923 في الفترة نفسها سوى 10 سنوات، فكثيراً ما كانت حكومات الأقلية تعطله عبر "انقلابات دستورية"، بإيعاز من القصر والاحتلال. ففي هذه الفترة، تولّى الوفد الحُكم ستّ مرّات، عقب انتخابات لمجلس النوّاب فاز فيها بأغلبية كاسحة، أو كبيرة (1924، 1928، 1930، 1936، 1942، 1950) وفيها وصل "الوفد" إلى الحُكم في ظروفٍ سياسيةٍ دخل في تشكيلها عنصر يتعلّق بالصراع الوطني، وأُسقِطَت وزارة "الوفد" في أربعٍ من هذه المرّات، بسبب موقفه المُتشدِّد من المسألة الوطنية (1924، 1928، 1930،1952)، وفقاً لطارق البشري.
وعلى الرغم من قصر المدّة التي تولى فيها "الوفد" السلطة، إلا أنها كانت حافلة بالإنجازات، وكان أبرزها: معاهدة 1936 التي حققت استقلالاً مبدئياً لمصر، وأخرجت قوات الإنكليز إلى قناة السويس، وحققّت الاستقلال للجيش المصري، وإلغاء الامتيازات الاجنبية لـ12 دولة عام 1937، وهو قرار استعاد سيادة مصر، وبسط سيادة الحكومة المصرية على الأجانب في التشريع، والإدارة، والأمن العام. كما أطلق مصطفى النحّاس باشا، وحكومة الوفد شرارة الكفاح المُسلح ضد الاستعمار البريطاني، بعد إلغائه معاهدة 36 في 1951، وبدء معارك الفدائيين ضد الاحتلال في القناة.
فضلاً عن ذلك، يُحسب لحكومات "الوفد" تأسيس جامعة الدول العربية، وتوقيع معاهدة للدفاع المشترك بين الدول العربية، وإنشاء ديوان المحاسبات "الجهاز المركزي للمحاسبات"، ومحكمة النقض، والبنك المركزي، واتحاد العمال. وإصدار عشرات التشريعات المنظمة للحقوق في مصر، مثل قانون العمال، ومجانية التعليم على مرحلتيْن، للتعليم الابتدائي في حكومة النحّاس في 1942، في حكومة النحّاس الأخيرة في 1950 لتمتد إلى التعليمين، الثانوي والفني، بالإضافة إلى قوانين التأمين الإجباري علي العامل، واستقلال القضاء والتعريب.
وعلى الرغم من القصر النسبي للحقبة شبه الليبرالية التي جاءت عقب ثورة 1919، واستمرت حتى يوليو/ تموز 1952، إلا أنها كانت شديدة الثراء على المستويات، السياسي والفكري والثقافي، فقد كانت مصر تشهد فترةً شبه ليبرالية، وتعددّية سياسية، وفكرية، وحزبية، في حين كانت دول جنوب أوروبا ترزح تحت وطأة الحُكم العسكري، حيث اتسمت تلك الفترة في مصر بقدرٍ كبيرٍ من الحرية، وانفتاح المجال العام أمام فاعلين عديدين، وامتلاك المجتمع، بشكل نسبي، زمام المبادرة وحرية الحركة، حيث كان المجال مفتوحاً لتأسيس الأحزاب والجمعيات الأهلية، والتنظيمات النقابية، كما كان مفتوحاً أيضاً أمام حراك مختلف المشارب والمذاهب الفكرية والسياسية وتفاعلها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فقد كان المجتمع، في تلك الفترة، متنوّعاً "كوزموبوليتانياً" يضمّ كل الاتجاهات، والأجناس، والأعراق، والطوائف، من دون إقصاء أو وصاية من طرف على آخر، وهو ما تؤكده ضراوة المعارك السياسية والفكرية التي اتخذت طابعاً سجالياً بين أطرافها، وقد كانت ساحاتها صفحات الصحف المختلفة المعبّرة عن مختلف الأحزاب السياسية والتوجهّات الفكرية، حيث كان سمتها الرئيسي لغة الخطاب البالغة الرقي، حتى في أعتى لحظات النقد والهجوم.
وقد انعكس هذا على الإنتاجيْن: الأدبي والفني للحقبة شبه الليبرالية، إبّان العهد الملكي، فقد كانت ثورة 1919 بمثابة مخاضٍ كبيرٍ لجيلٍ رائعٍ من المُبدعين في مُختلَف ميادين الإبداع، من الأدباء والكُتّاب والشعراء، بدا وكأنّ الثورة قد فجّرت طاقات الإبداع فيهم، وقد أثرى هذا الجيل المكتبة العربية بإنتاجه الرفيع فكرياً وأدبياً.
ويُعد التراث الأدبي والفني لتلك الفترة القاعدة الأساسية لـ"القوّة الناعمة" المصرية في محيطيها
العربي، والإقليمي، والتي مازالت آثارها باقية، كما انعكس أيضاً على السمت المعماري البديع الذي اتسمت به طرز المباني التي شُيدت في تلك الفترة. والإنتاج الأدبي والفني والمعماري لحقبة بعينها مرآة عاكسة لحالة المجتمع، ودرجة حيويته السياسية، والفكرية، والثقافية، وما يتمتع به من ذائقة جمالية، وقد اتسمت تلك الحقبة بقوّة منظومتها التعليمية (على الرغم من قلّة عدد المُتعلِّمين فيها وانتشار الأميّة)، وهو ما انعكس على تكوين الطبقة الوسطى وسماتها، فقد كانت متجانسة، ومتميّزة. بعبارةٍ أخرى، كانت طبقة صغيرة كمّاً، لكنها كبيرة كيفاً، فقد كان التعليم الرافعة الوحيدة تقريباً للحراك الاجتماعي.

نقاط ضعف وأوجه قصور
تكمن نقاط ضعف ثورة 1919 العظيمة في أنها قصرت مفهوم الاستقلال على المستوييْن، السياسي والاقتصادي، من دون الاستقلال الثقافي والحضاري، فقد كان تصوّرها للنهضة والاستقلال أسيراً للمفهوم الغربي لهما، ويدور في إطار تحقيق السيادة الوطنية، واستعادة الأمّة مقدرّاتها، عبر شعار "مصر للمصريين"، ولم يتسع تصورّها ليشمل النواحي الفكرية والثقافية والحضارية، فلم تتخذ ثورة 1919موقفاً حاسماً تجاه قضية التغريب والهويّة الحضارية، وهو الأمر الذي جاء حصاده في عقودٍ لاحقة، بنشوء استقطاب حاد بين فريقيْن متطرّفيْن. ذهب الأول إلى تأكيد "الذات الحضارية"، بشكل مُبالغ فيه في أحيان كثيرة، عبر الدعوة إلى الوصل التام بين الدين وتفاصيل الممارسة السياسية، بعدما ترّسخ في عقله الجمعي أن الحرية تعني حرية مهاجمة الثوابت الدينية والتحللّ من القيم الأخلاقية إلى جانب تغليبه البُعد "الأممي" على البُعد "الوطني". وذهب الثاني في الاتجاه المضاد الخاطئ عبر الدعوة إلى الفصل التام بين الدين وتفاصيل الممارسة السياسية، حيث رأى أن حضور الدين في المجال العام يعني القمع، والنيْل من الحريّات الشخصية، وهو مازلنا نعانيه، متمثِّلاً في الاستقطاب الإسلامي - العلماني.
كما أن ثورة 1919 ضيّقت من "دائرة الانتماء" لتقتصر على "الجامعة المصرية" ووحدة وادي النيل (مصر والسودان)، من دون أن تتسع إلى دوائر الانتماء الأوسع، لتشمل الدائرتين، العربية والإسلامية.
وأغفلت معالجة الأزمة الاجتماعية، ولم تتخذ إجراءات حاسمة من أجل تفكيك بنية النظام الاجتماعي الطبقي، وقصرت مفهوم تمثيل الأمّة سياسياً على طبقةٍ بعينها من كبار المُلاّك الذين حالوا دون حدوث أي إصلاحاتٍ اجتماعية، من شأنها تهديد مصالحهم، ففي حالة حزب الوفد (حزب الأغلبية حينذاك)، وعلى الرغم من تسميته حزب "الجلاليب الزرقاء"، نسبة إلى زي الفلاحين المصريين، إلا أن المستوى القيادي داخله خلا من أي وجود لأصحاب "الجلاليب الزرقاء"، حيث كانت صفوفه القيادية قاصرةً على "الباشوات" من كبار الملّاك، أو كبار الرأسماليين (!).
وهنا، يؤخذ على "الوفد" أنّه قصر منهجه في خدمة القضية الوطنية على الآليات نفسها التي اتبعها منذ نشأته، من دون محاولة تطويرها. وكما كتب طارق البشري، فقد اقتصرت أدواته على الوسائل "السلمية المشروعة" للسيطرة على الحركة الجماهيرية، من أجل الوصول إلى الحُكم لتحقيق أهداف الحركة الوطنية المصرية بإجلاء الجنود البريطانيين، وتحرير الإرادة الوطنية من الخضوع للنفوذ الأجنبي. أو بشكل آخر، تعبئة الجماهير إلى مستوىً يصعب معه على أيّة حكومة أخرى أن تُجري اتفاقاً مع بريطانيا يمنحها شرعية الوجود العسكري والسياسي في البلاد.
تمثّلت هذه الآليات في الدخول في جولاتٍ من المفاوضات مع الإنكليز، والقيام بمظاهرات، والمشاركة في الانتخابات، وفقاً للبشري، فلم يحاول أن يربط بين الكفاح ضدّ المُحتلّ الأجنبي وحلّ المشكلة الاجتماعية، عبر طرح شعارات اجتماعية على الجماهير تتعلّق بمشكلاتهم ضدّ كبار المُلّاك والرأسمالية الأجنبية، ولم يعمل على توثيق صلته بالجماهير عن طريق نشر الخدمات الاجتماعية، عبر بناء المدارس والمستوصفات، بالإضافة إلى عدم وجود نشاط ذي بال له في صفوف الفلّاحين، فلم يهتّم حزب الوفد بإنشاء نقابات لهم، ولم يبنِ في القرى مؤسسّات سياسية أو اجتماعية جديدة، وإنّما اعتمد على المؤسسّات الأسرية القديمة المؤيّدة له في الريف. ويرجع هذا كله، بالطبع، إلى أسباب تتعلّق ببنيته الداخلية، وهيمنة كبار المُلّاك على صفوفه القيادية، من الذين حرصوا على توقّف المطالب الاجتماعية عند حدٍّ مُعيّن لا يمسّ مصالحهم، ولا يعني تغييراً جذرياً للخريطة الطبقية والاجتماعية.
وقد انتهت تلك الحقبة بوقوع الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيم "الضبّاط الأحرار" في 23 يوليو/ تموز 1952، بعد وصول المشهد إلى حالةٍ من الانسداد السياسي والدوران في حلقة
مُفرغة بتدخّلات القصر المتكرّرة، وإطاحته حكومة "الوفد" ذات الأغلبية الشعبية التي عجزت عن حلّ القضية الوطنية بشكل حاسم. وبموجب انقلاب 1952، ودّعت مصر عهد التعددية السياسية والممارسة الديمقراطية، ودخلت عهد الاستبداد، والسلطوية، والديكتاتورية، أو عهد اللون الأوحد، والزعيم الأوحد، والتنظيم الشمولي الأوحد، أو "حزب الدولة" الذي تغيّرت مسمياته عقوداً طويلة من عُمر دولة يوليو 1952 (المديد)، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي إلى حزب مصر إلى الحزب الوطني (!).
كان عُمر الحقبة شبه الليبرالية قصيراً بالمعيار الزمني، إلا أن أثرها كان كبيراً بمعيار الإنجاز، فما زالت آثارها الإيجابية سارية. وهي لم تحظَ بدراسة كافية، تقوم على قدرٍ من الموضوعية والعقلانية، للوقوف على ما اشتملت عليه من مزايا وعيوب، على الرغم من اقتراب الذكرى المئوية لثورة 1919، بعدما تعرّضت لحملات هجومية عاتية، من الآلة الإعلامية لدولة 23 يوليو 1952، قامت بالأساس على التشويه، والافتراء، والتصفية المعنوية، بنشر "الدعاية السوداء"، و"شيطنة" تلك الفترة برموزها وشخوصها، فقد ترسّخ في العقل الجمعي لعدّة أجيال أنّ الحقبة شبه الليبرالية كانت سواداً حالكاً، وأنّ مصر لم ترَ النور سوى في صباح 23 يوليو 1952(!).
ألقت حروبنا الأهلية الفكرية بظلالٍ قاتمةٍ كثيفةٍ، على ذاكرة الحركة الوطنية المصرية، ما جعل تقييم الأحداث التاريخية المفصلية يحيد عن الإنصاف، ويجنح إلى الإجحاف، وبما جعل ذاكرتنا الوطنية ساحةً للمكايدات والنكايات، ولتصفية الحسابات الأيديولوجية والتاريخية التي تجسِّد الانقسامات والاستقطابات بين مختلَف التيارات الفكرية، وهو ما يستدعي إعادة قراءة تاريخنا الحديث بروحٍ موضوعيةٍ وعينٍ عقلانيةٍ، تخرج عن ثنائية التقديس والتدنيس، من أجل استخلاص الدروس من تجارب الماضي، والوقوف على الأخطاء التي وقعت، وتصفية صفحات ذاكرتنا الوطنية ممّا علق بها من خموش وخدوش، ورتق ما شاب معالمها من فتوق وشقوق، أحدثتها صياغة بعضهم سرديات تاريخية، قعدت بها الروح الإقصائية والنزعة الثأرية.
دلالات