بالتزامن مع اقتراب إثيوبيا من تحقيق مرادها، بتفريغ أي اتفاق حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة من معناه، والمساومة على استمرار التفاوض من أجل التفاوض مقابل انتزاع حق الملء الأول المبكر للسد، وبينما يحاول رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد ضمان عدم فتح جبهة أزمات جديدة بزيارته أمس إلى أريتريا، بعد أسبوع من زيارة رئيسها أسياس أفورقي إلى القاهرة، وانتقاده اتفاق السلام بين البلدين، يركز النظام المصري، في خطابه الداخلي، على تبرير الفشل في إدارة الأزمة على تحميل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، مكرراً ما فاجأ به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مواطنيه من تصريحات في سبتمبر/أيلول الماضي.
فخلال مؤتمر الشباب الثامن، حمّل السيسي ثورة يناير مسؤولية بناء سدّ النهضة الإثيوبي الجاري إنشاؤه حالياً، واكتمل منه أكثر من 60 في المائة حتى الآن. وقال السيسي إن "ثورة يناير تسبّبت في بناء سدود على نهر النيل"، في إشارة إلى سدّ النهضة الذي تبنيه إثيوبيا، ويُنذر، بحسب مختصين في الأمن المائي، بمواجهة مصر كارثة مائية وخطر الجفاف. وقال السيسي صراحة: "سأقول لكم عن غلطة واحدة، أو ثمن واحد دفعناه وسندفعه، 2011 (في إشارة إلى الثورة) لم تكن أبداً لتبنى سدود على نهر النيل إلا بها"، واصفاً حديثه بأنه "كلام في منتهى الخطورة". وتابع: "أنا قلت 2011 فقط ليه؟ لأني جبت لكم نقطة واحدة وتقولوا لي: حل يا سيسي وهات لنا المية. أنتم (المصريين) من عملتم كده".
وكرر السيسي حديثه خلال حضوره الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 من العام الماضي، قائلا: "لولا أن مصر كشفت ظهرها وعرّت كتفها (آنذاك) لكنا قادرين على التوصل إلى اتفاق وشروط واضحة لإنشاء هذا السد تحمي حقوق مصر". وذكر أنه غير راضٍ عن "المبالغات" المنتشرة عن الآثار السلبية للسد على مصر، وأن الأمور مع إثيوبيا يجب أن تحل بهدوء وروية، وأنه حرص على تهنئة أبي أحمد لفوزه بجائزة نوبل كـ"رئيس لمصر وللاتحاد الأفريقي" آنذاك.
اعترف اتفاق المبادئ بحق إثيوبيا في بناء السد وبحقها السيادي في إدارته
حديث السيسي عن تحميل ثورة يناير أخطاء نظامه الممتدة لسبع سنوات، أصبح العنوان الأبرز لتصريحات ومقالات إعلاميين ووزراء ودبلوماسيين سابقين موالين للنظام خلال الأيام الخمسة الماضية. وكشف مصدر إعلامي، لـ"العربي الجديد"، أن بعض الشخصيات المحسوبة على دائرة السيسي الضيقة، وكذلك قيادات من المخابرات العامة والأمن الوطني، طلبت من وسائل الإعلام الموالية التركيز على هذا الأمر، كنوع من تهيئة الرأي العام لأي تعثر، أو فشل نهائي للمفاوضات الحاصلة، بالتوازي مع تهيئته للأخطار المائية التي ستواجه مصر خلال الفترة المقبلة بعد بدء ملء السد.
والواقع أن إثيوبيا ظلت تحاول بدأب وبصور غير مباشرة، أحياناً بالاستجداء وأحياناً أخرى بالواسطة، انتزاع اعتراف مصر بشرعية مشروع سد النهضة منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك وحتى عام 2014، عندما تسلّم السيسي السلطة وفاجأ المصريين بطريقة جديدة غير معتادة لإدارة الملف، وبلهجة تودد غريبة على المفاوضين والسياسيين المصريين، وقبلت إثيوبيا ذلك بصدر رحب. وتكلل التقارب بتوقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015 بين السيسي ونظيره السوداني المخلوع عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميريام ديسالين، وهو الاتفاق الذي اعترف أولاً بحق إثيوبيا في بناء السد، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت به من قبل، وأقر ثانياً بحقها السيادي في إدارته، ولم يقرر أي جزاء قانوني دولي عليها حال مخالفة الاتفاقات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة أعوام 1902 و1959 و1993.
وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وكذلك تقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات السابقة، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أن اتفاق المبادئ، الذي أصر السيسي على توقيعه ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرفات الإثيوبية الحالية. فالمبدأ الخامس من الاتفاق، والذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان. وتستند إثيوبيا للبند الثاني من هذا المبدأ، لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها مُلزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". البند نفسه يحمل نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية، فهو يتحدث عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة، والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، ما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لتبدأ الملء الأول بالفعل بالتوازي مع المناقشات، طالما أن السد لم يكتمل بناؤه حتى الآن.
ترفض أديس أبابا اللجوء مرة أخرى إلى الرقابة أو الوساطة السياسية بحجة أن القضية فنية فقط
وسبق أن ادعى وزير الطاقة والمياه الإثيوبي سيليشي بيكيلي أن بلاده تنفذ المبدأ الخامس من الاتفاق "بالحرف الواحد"، وأنها أطلعت دولتي المصب على جميع الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن، وأن حالة الجفاف تحديداً تقدر احتماليتها بأقل من أربعة في المائة خلال أول عامين وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً، وأنها تلتزم بعدم الإضرار بالدولتين في تلك الحالة، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد. ويتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر"، وعليه ترى أديس أبابا أن القاهرة اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وترفض مشاركة مصر والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار"، باعتباره مبدأ منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته.
كما أن المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية الملزمة يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما أعاق توصل الأطراف إلى نقطة سواء، وفرغ مفاوضات واشنطن مطلع العام الحالي من فحواها، فضلاً عن كون الخرطوم تبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيدة من بناء السد، وهي تجدد ثقتها في إمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات. أما أديس أبابا فهي ترفض اللجوء مرة أخرى إلى الرقابة، أو الوساطة السياسية، بحجة أن القضية فنية فقط، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الذي يخشى استمرار إهدار الوقت من دون اتفاق.
كما أن البند الأول من ذلك المبدأ يحرم مصر والسودان من إمكانية اللجوء إلى جهات دولية لحسم القضايا العالقة، حيث ينص فقط على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق، من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا". وبناء على هذا البند، تدفع إثيوبيا في اتجاه أن تكون التسوية سياسية تماماً، من دون أدنى التزام قانوني، لتلافي وصول أي قضية ذات صلة بالسد إلى مرحلة يكون فيها رابح وخاسر بالقانون الدولي وبقرار تحكيمي، واقتراح اللجوء إلى منظمة دولية (الخيار الأول للإثيوبيين هو بالطبع الاتحاد الأفريقي) لتسوية الخلافات سياسياً وليس قانونياً.
مصر، تحت قيادة السيسي، تحركت على الصعيدين الدبلوماسي والإعلامي متأخرة
ومن دلائل فشل اتفاق المبادئ وتحوله إلى نقمة على مصر، أن البلدين خلال المفاوضات الأخيرة استندا إلى الاتفاق ذاته لتبرير المقترحات المتعارضة بشأن القضايا الخمس الفنية والقانونية، وهي مدى إلزامية القواعد الخاصة بالتشغيل والملء الأول والمستمر للسد، ومدى تمتع إثيوبيا بالحق في ملء السد لأول مرة قبل التوصل إلى اتفاق على تلك القواعد، وكمية المياه التي ستسمح إثيوبيا بتمريرها في أوقات الجفاف والجفاف الممتد، واستحداث آلية مستدامة لفض النزاعات التي تنشأ بسبب الملء والتشغيل، ومدى تمتع إثيوبيا بالحق في إنشاء مشاريع على مجرى النيل الأزرق من دون إذن مصر والسودان، بما قد يؤدي إلى المساس بحصتيهما التاريخيتين في مياه النيل.
وتحت إدارة السيسي أيضا غيرت مصر أكثر من مرة ثوابتها التفاوضية. ففي البداية، كان المصريون متمسكين بأن يتم ملء السد على سبعة أعوام. لكن وبقرار سياسي من السيسي، تراجع الوفد الفني عن هذا الطلب في مفاوضات واشنطن، وطُرحت رؤية جديدة لترك الملء حسب الظروف الهيدرولوجية، على خمس مراحل قد تستغرق من عامين إلى ثلاثة أعوام، وفي نهاية المطاف سيتم ملء خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً، وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية في السدّ جاهزة للعمل، ما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، ما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.
وبعدما تلقفت إثيوبيا هذا التراجع المصري بالترحيب، عادت لتطالب بالمزيد، فرفضت ربط القياسات ببحيرة ناصر، بحجة أن الحفاظ على منسوب المياه بها عند 165 أو 170 متراً قد يؤدي إلى حرمان سد النهضة من إمكانية الملء لشهور عديدة متتابعة، نظراً لتدني مستوى الفيضان في بعض الأحيان إلى أقل من 30 مليار متر مكعب. وبعد قبول القاهرة بحلول وسط أخرى، زايدت أديس أبابا برفض ضمان تمرير 40 مليار متر مكعب من المياه لمصر في فترات الجفاف الممتد والتشغيل المستمر. ورضخت القاهرة مرة أخرى بقبول النزول إلى 37 مليار متر مكعب، الأمر الذي لا ترضى به أديس أبابا أيضاً.
كما أن مصر، تحت قيادة السيسي، تحركت على الصعيدين الدبلوماسي والإعلامي متأخرة. فالاجتماعات التي عقدها مسؤولون مصريون مع سفراء الدول التي تشارك شركاتها في مشاريع السد بدأت فقط في الخريف الماضي، ولم تحقق أي نجاح بسبب زعم حكومات فرنسا والصين وألمانيا وإيطاليا أنها لا تستطيع التحكم في توجهات مستثمريها، على الرغم من أن الواقع يؤكد ضرورة حصول المستثمرين على ضوء أخضر ودعم حكومي للاستثمار وفق خطط المساعدة التنموية الأوروبية والصينية لشرق ووسط أفريقيا. كما لم تصدر الخارجية المصرية بياناً واحداً يهاجم الإثيوبيين قبل انسحابهم من مفاوضات واشنطن، بعد شهور من التطمينات الأميركية التي ما زالت مصر تراهن عليها فقط لإنجاح مسار المفاوضات.
وتلقى السيسي، أمس الأول، دعوة للمشاركة في القمة الأفريقية المصغرة عن بُعد يوم الثلاثاء المقبل لمناقشة قضية سد النهضة، وذلك في أعقاب فشل المفاوضات الفنية والقانونية التي استغرقت نحو أسبوعين. ولم تعلن القاهرة بشكل رسمي عن تلقيها الدعوة. وتحاط القمة المصغرة بالارتباك على خلفية التصريحات المتضاربة لإثيوبيا حول ملء السد، التي قدمت مصر طلبا رسمياً لاستيضاحها من أديس أبابا. كما أن هناك خلافا إجرائيا حولها، إذ تتجه بعض الأصوات إلى أن تعد جنوب أفريقيا، بصفتها رئيس الاتحاد الأفريقي، تقريراً مجمعاً عن المشاكل محل الخلاف، مصحوبة بتفريغ للحلول المقترحة من كل جانب لعرضها والتصويت عليها، واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها خلال القمة المصغرة، بينما تتجه أصوات أخرى إلى أن يتم عرض التقارير على القمة، ويتم تحديد الخطوط العريضة للاتفاق على ضوء المقترحات، ويخصص أسبوع آخر للصياغة بواسطة لجنة مصغرة تمثل فيها جميع الأطراف. وتتطلب بعض البنود، التي من المفترض أن تكون قد حُسمت، مثل قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد، لإعادة الصياغة لاتصالها بقضايا فنية لم تحسم بعد.