يحاول التونسيون عدم الالتفات إلى الوراء، ويصرّون على استكمال ما تبقى من خطوات في مسيرهم. قد تكون تلك الخطوات صعبة، غير أنّها لا بدّ من أن توصلهم إلى وجهتهم.
في مثل هذا اليوم، في السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2010، خرج محمد البوعزيزي ليحرق نفسه احتجاجاً على الظلم والواقع الاجتماعي الصعب ويلهب التونسيين جميعاً ويطلق مع هؤلاء شرارة "الربيع العربي" الذي غيّر مجرى التاريخ في المنطقة.
وما أشبه اليوم بالأمس... فمدينة سجنان التونسية في محافظة بنزرت (شمال) لم تهدأ منذ أيام احتجاحاً على وفاة راضية المشرقي. والمشرقي أم لخمسة أطفال وزوجة رجل يعاني من مرض في الكلى، أقدمت على إحراق نفسها في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي داخل مقر معتمدية سجنان، بسبب حرمانها من منحة العائلات الفقيرة التي تصل قيمة إلى نحو 60 دولاراً أميركياً. وقد توفيت في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري في مستشفى الحروق البليغة في بن عروس (شمال) في المكان نفسه حيث قضى البوعزيزي.
وبعد ليال من الكرّ والفرّ بين شباب المنطقة ورجال الأمن، وبدعوة من الاتحاد المحلي للشغل في سجنان، دخل الأهالي في 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في إضراب عام في المعتمدية كلها، فأغلقت المؤسسات التربوية أبوابها وكذلك فعلت المحلات التجارية والإدارات باستثناء المخابز والصيدليات والقسم الاستعجالي، في حين أقيمت جنازة رمزية لراضية المشرقي. يُذكر أنّ المدينة شهدت حالة من الاحتقان الشديد خلال الأيام الماضية، بعد فشل الجلسة التي عُقِدت بين ممثلي المحتجّين وممثلي الحكومة، وجرى تنفيذ الإضراب العام.
احتجاجات في سجنان قبل أيام (سفيان حمداوي/ فرانس برس) |
يقول الكاتب العام للاتحاد المحلي للشغل، عمر النفزي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الإضراب العام في سجنان كان ناجحاً وقد عُطّل عمل معظم المؤسسات العمومية والمرافق الأساسية". ويشير إلى أنّ "أسرة الراحلة تعيش وضعاً صعباً. فهي كانت قد واجهت صعوبات في تأمين قوت يومها، الأمر الذي دفع الأم إلى الاحتجاج عبر إحراق نفسها". ويوضح النفزي أنّ "الوضع محتقن جداً في الجهة وأنّ الكأس قد فاضت نتيجة الظروف المعيشية الصعبة وانتشار الفقر"، مضيفاً أنّ "أبرز مطالب الأهالي هي التنمية والتشغيل، إذ لا تتوفّر في المنطقة مصانع ولا شركات توظّف الناس. وما يتوفّر هو تشغيل متواضع من قبيل العمل في الحظائر الذي تقتات منه بعض العائلات".
ويلفت النفزي إلى أنّ "ثمّة منطقة صناعية جرت تهيئتها، لكنّ العمل فيها لم ينطلق منذ أكثر من ثلاثة أعوام، في حين أنّ الجهة تتخبط في الفقر والحاجة، بالإضافة إلى أوضاع العقارات التي لم تُسوَّ منذ سنوات عدّة". يضيف أنّ "ثمّة مناجم، لكنّها لا تشغّل سوى نسبة قليلة من السكان. وعلى الرغم من أنّ المنطقة غنيّة بالمياه الجوفية إلا أنّ مياه سجنان توزّع على مناطق أخرى كالجنوب التونسي، فلا يستفيد الأهالي منها كذلك". ويتابع النفزي أنّ "المكتب المحلي لاتحاد الشغل سوف ينظر بعد الإضراب العام في الخطوات التصعيدية المقبلة بهدف تحقيق المطالب. ونحن دعاة سلم ومستعدّون للتفاوض، لكن في حال عدم الإنصات إلينا فنحن نتحرّك".
ولا تختلف الصورة هنا عن صور مدن أخرى كثيرة في تونس، إذ إنّ السيناريو نفسه يتكرر في فترات متباعدة، فتكون احتجاجات ومطالبة بالتشغيل والتنمية والمشاريع، وتكون شعارات الثورة نفسها "خبز.. حرية.. كرامة وطنية". ومن السطحيّ جداً ومن التسرّع في مكان أن يستنتج المتربّصون بالتجربة التونسية أنّ تونس بقيت تراوح مكانها ولم تتقدّم بها الثورة ما دامت المطالب نفسها تتكرر في أكثر من جهة فقيرة. وثمّة من قد يسارع إلى الإعلان أنّ الثورة فشلت، وأنّ الحرية تذهب بالتنمية والرفاه، لإبقاء الشعوب في وضعية مقايضة دائمة: الخبز في مقابل الحرية والديمقراطية.
لكنّ التونسيين متنبّهون جداً، ويقيّمون المسار تقييماً هادئاً وموضوعياً على الرغم من الصعوبات والمشكلات، وعلى الرغم من عدم تحقيق اختراق حقيقي وملموس في الواقع الاجتماعي والتنموي. وهم يلاحظون أنّ ثمّة تقدماً فعلياً وإن كان هناك بطء ينسبونه إلى فشل سياسي وحكومي، وليس إلى الثورة. ويدركون أنّ ثمّة عملية هدم تسبق البناء، وأنّ ثمّة بناءً فعلياً على المستوى التشريعي والقانوني سوف يؤسّس للمستقبل. أمّا الحكومات والأحزاب، فأمرها متروك للاستحقاقات المقبلة وتغييره متاح. لكنّ السؤال يبقى إلى أيّ حد يستطيع الناس أن يصبروا؟
من جهته، يوضح المكلّف بالإعلام في منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، لـ"العربي الجديد"، أنّ "دستور 2014 فرض التزامات عدّة على الدولة في ما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لكنّ الدولة وللأسف تجد نفسها عاجزة عن تنفيذ كلّ ما ورد في الدستور في ما يتعلق بالفئات المهمّشة والمناطق التي تفتقر إلى التنمية". ويتحدث بن عمر عن "حقوق بسيطة كالحق في المياه والبيئة والرعاية الصحية والدراسة والتي كانت مجرد مكتسبات وأصبحت حقوقاً دستورية. لكنّ الدولة عاجزة عن القيام بواجباتها تجاه المواطنين، فمناطق كثيرة لا تصلها المياه الصالحة للشرب في حين أنّ تلاميذ كثيرين ما زالوا خارج الدراسة وجهات عدّة تشهد انتفاضات بسبب غياب الرعاية الصحية ونقص الأطباء، إلى جانب عدد من المشاريع المعطلة باعتراف الدولة". يضيف أنّ "الدولة التونسية من خلال برامجها ومن خلال قانون المالية 2018، تفرض على المواطنين القيام بواجباتهم في ما يتعلق بتسديد الضرائب، لكنّها في الوقت نفسه عاجزة عن القيام بواجباتها تجاههم. فهي تتّبع السياق نفسه في التنمية، والخيارات الاقتصادية لم تتغير وكذلك الطبقة السياسية التي تسوّق في فترة الانتخابات لخطاب وحلول غير متوفّرة أو لا تطبَّق". ويؤكد بن عمر أنّ "تونس وبحسب الدستور التونسي، لديها تشريعات رائدة، لكنّ الممارسات هي وللأسف العائق ولا توضع خطط بحجم تلك التشريعات والتطلعات".
هل تكون "سويسرا العرب" في يوم؟ (فتحي بلعيد/ فرانس برس) |
ويلخّص بن عمر حقيقة الأزمة في تونس بـ"فشل الحكومات في ابتداع مسار تنموي واستراتيجيات جديدة قادرة على الإجابة عن سؤال يطرحه التونسيون منذ قيام دولة الاستقلال: لماذا لا تكون تونس سويسرا العرب؟ هم مقتنعون بأنّ ذلك ممكن وبأنّ الأمر لا يتطلب الكثير. وهذا ما يعني أن الحكومات المتعاقبة لم ترقَ إلى مستوى طموح شعبها".
تجدر الإشارة إلى أنّ التونسيين صابرون وقانعون إلى حدّ اليوم بالمكسب الأكبر وهو الحرية، في حين ينتقدون حكوماتهم ورؤساءهم في وضح النهار من دون خوف. وعلى الرغم من كل البطء، فإنّهم يتابعون وضع المؤسسات الدستورية التي تمنع العودة إلى الوراء وتؤسّس لنموذج اجتماعي عربي فريد يمنع الاعتداء على المرأة، ويحمي الطفولة، ويبحث منهجاً دراسياً جديداً، ويحمي الحقوق الأساسية للعائلة وللعيش الكريم، ويحمي السجين في سجنه، ويمنح الموقوف حقوقاً، ويمنع التعذيب. إلى ذلك، صار في إمكان المواطن مقاضاة مؤسسات الدولة ورفع شكوى في حقّ شرطي والطعن في دستورية أيّ قانون. مسافة طويلة هي التي قطعها التونسيون ويتركون حريّة تقييمها لمن يرغب في ذلك... نصف الكأس الملآن أم الفارغ؟ نصف المسافة المقطوع أم المتبقّي؟