ثنائية السلطة والمقاومة: لا دولة، لا حركة تحرّر

28 فبراير 2016
(تصوير: حمدي أبو رحمة)
+ الخط -

يفترض هذا المقال بداية أن تأزم النظام السياسي وحركة التحرر الفلسطينية هو نتيجة التقاطع الحاصل بين حالة حركة التحرر الوطني وبين حالة الدولة، حيث نتجت عن هذا التقاطع حالة سياسية تتمثل في غياب حركة التحرر الوطني من جهة، وغياب الدولة من جهة أخرى، أي حالة ليست بحركة تحرر ولا دولة، فلا هي حملت معها إيجابياتهما ولا تركت سلبياتهما، حيث أن الحركة الوطنية الفلسطينية فقدت مواقع حركة التحرر ولم تصل إلى حالة الدولة.

وساهمت حالة السلطة المُشوهة والمقاومة في ظل السلطة في تأسيس مجتمع مدني فلسطيني، لم يدفع نحو المقاومة الشعبية بل اندمج في قواعد اللعبة لمجتمع مدني بغياب الدولة. وقد نتج عن هذه الحالة قيام سلطة وطنية فلسطينية لم تكن دولة ولا حالة مقاومة، ولعبت مؤسسات المجتمع المدني في هذه المساحة دورا كبيرا في ظل الفراغ السياسي "الدولتي" في المجتمع الفلسطيني.

وإذا كان المجتمع المدني هو ضرورة من ضرورات التحول الديمقراطي، فان ذلك يتم في ظل الدولة، حيث تلعب مؤسسات المجتمع المدني دور الوسيط بين الدولة وبين المجتمع، لكن في الحالة الفلسطينية، حالة غياب الدولة، فإن المجتمع المدني جاء، كما يقول عزمي بشارة "مع ضمور شديد في السياسة والمجتمع عقب أزمة الانتفاضة... ثم أفولها ونجاح إسرائيل في فرض شروط الهزيمة على السياسة والمجتمع الفلسطينيين ممثلين بقيادتهما الشرعية والتاريخية، م. ت. ف".


أوسلو- بداية أزمة فتح السياسية
ضربت ثنائية السلطة والمقاومة بداية حركة فتح، التي أطلقت الثورة الفلسطينية وقادتها لعقود، وذلك بعد اتفاق أوسلو. ويمكن القول دون مبالغة إن ثنائية السلطة والمقاومة التي ضربت حركة فتح انعكست على الحركة الوطنية الفلسطينية، ففتح كانت حتى أوسلو المركب المركزي في حركة التحرر الوطني الفلسطينية.

بعد العودة إلى الداخل الفلسطيني، كما درج الفكر السياسي الفلسطيني على تسمية ذلك كتمييز عن الشتات، دخلت حركة فتح أزمتها الأساسية، وهي أزمة التناقض الحاصل بين طابعها كحركة تحرر وطني وبين كونها حزب سلطة، وهي حالة رافقت الكثير من حركات التحرر التي تحولت إلى حزب السلطة.

ومع ذلك لا بُد من القول إن بذور هذه الأزمة بدأت تنخر في جسد فتح في مرحلة تونس وعلى أثر خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان خلال شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر من العام 1982. فالقوات التي عادت إلى السلطة من تونس وقيادات فتح معها كانت قوات متعطشة للسلطة وقوتها ونفوذها.

لكن في الحالة الفلسطينية كان الوضع أكثر تعقيدا، حيث أن السلطة لم تكن شكلا من أشكال الدولة، يتم من خلاله ممارسة السيادة والعمل السياسي والتعددية الحزبية، بل كانت السلطة بُنية سياسية في طريقها إلى الدولة وفي ظل الاحتلال.

تماهت حركة فتح مع السلطة وتشوهت بها، وراوحت مكانها سياسيا ولم تنتج خطابا سياسيا يعبر عن رؤيتها لتطور الصراع. ومعلوم أن التحول نحو التسوية في مطلع السبعينيات داخل الحركة الوطنية الفلسطينية لم يكن نتيجة تحول في الخطاب السياسي لحركة فتح ولم يتم هذا التحول نحو التسوية واتفاق أوسلو من خلال هيئاتها وقواعدها.

الخلاف أو الانقسام الذي أصاب فتح بعد خروج القوات الفلسطينية من لبنان حول قبول مبادرة "ريغان" ووزير خارجيته "شولتز"، أو الاستمرار في نهج المقاومة، ليس شبيها بالأزمة الحالية، وخصوصا في ظل غياب متغير هام في الحركة وهو قائدها التاريخي ياسر عرفات. فالخلاف اليوم داخل الحركة غير محكوم بحسابات سياسية أو حركية وإنما هو متعلق بعوامل خارجية. وتتصرف حركة فتح كحزب سلطة في دولة مستقلة وليس كحركة تحرر وطني تناضل من أجل الوصول إلى الدولة.

يمكن القول إن التداخل الذي حصل في مسيرة حركة فتح بين كونها حركة تحرر وطني- حركة مقاومة، وبين كونها حزبا للسلطة، جعل العلاقات التنظيمية تتشابك بين الأيديولوجي والمصلحي، وكانت لهذا التقاطع تداعيات تراكمية على مسيرة حركة فتح، وكان منقذها من هذا التقاطع هو وجود ياسر عرفات.

ونتج عن هذا التقاطع نظامان من العلاقات، يقوم الأول على العلاقات التنظيمية القائمة على الرؤى السياسية المشتركة، بينما يقوم الثاني على العلاقات البيروقراطية وعلى التراتبية الإدارية، وبدت فتح والسلطة كأنهما وجهان لعملة واحدة، أكثر مما كانت عليه الحال في فترة منظمة التحرير الفلسطينية.

وكما يقول جميل هلال فإن كل ذلك خلق نظاما "زبائنيا" محدثا قائما على توزيع امتيازات ووظائف وتسهيلات مقابل الولاء.


قوى اليسار وحماس وثنائية السلطة والمقاومة
كما ضربت ثنائية السلطة والمقاومة قوى اليسار الفلسطيني، التي وإن تحفظ معظمها من مسار أوسلو وقيام السلطة، فإنها تكيفت مع هذه الثنائية من خلال سلبية عملها السياسي الذي لم يحاول تجاوز هذه المرحلة أو فهمها.

ولقد همّشت قوى اليسار الفلسطيني نفسها مرتين: المرة الأولى عندما رضيت بتهميش منظمة التحرير ولم تبادر إلى إعادة بنائها بعد السلطة، والمرة الثانية عندما شاركت في الانتخابات من دون أن يتم إعادة بناء المنظمة ومن دون أن تقوم على إعادة ترتيب صفوفها التنظيمية والسياسية.

عندما رفضت هذه القوى المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 1996 وفي الانتخابات الرئاسية، كان النقد الأساسي لهذه الفصائل، غير النقد السياسي المعروف، هو أن الحركة الوطنية الفلسطينية يجب أن تعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وفصل عملية التماهي التي أحدثها اتفاق أوسلو بين المنظمة والسلطة.

أرادت هذه القوى تحديدا أن تعيد الروح إلى المنظمة كمؤسسة شرعية للشعب الفلسطيني في ظل السلطة، ولكنها لم تفهم الواقع السياسي الذي نجم عن قيام السلطة، وامتزاج مرحلة التحرر بمرحلة السلطة، والذي يستوجب منها إصلاحا سياسيا وتنظيميا، ولم تدرك أن الغياب عن الساحة السياسية بما في ذلك الانتخابات يؤدي إلى فقدانها لقواعدها الجماهيرية.

وعلى الرغم من طرح هذه المعارضة لأهمية الفصل بين السلطة والمنظمة وإصلاح الأخيرة، إلا أنها لم تطرح نفسها بديلا خلال انتخابات الرئاسة داخل المنظمة أمام مرشح حركة فتح. وقامت بتهميش نفسها سياسيا كما كانت في الحركة الوطنية الفلسطينية.

وبحسب المنطق السياسي لهذا القوى، كان عليها أن تخوض بالأساس الانتخابات داخل هيئات منظمة التحرير وليس السلطة، إلا أنها فضلت انتخابات تخوضها في ظل السلطة، فخسرت الاثنتين.

ولم تسلم حركة حماس أيضًا من ثنائية السلطة والمقاومة، وذلك بعد مشاركتها في انتخابات عام 2006، وسيطرتها على قطاع غزة، ودخلت في هذا المأزق، فالسلطة تقيدها كحركة مقاومة، والمقاومة بدأت تأخذ اعتبارات السلطة في عملها.


استراتيجيات ما قبل الدولة ودور المقاومة
تتطلب حالة حركة التحرر الوطني استراتيجيات عمل سياسية معينة ومحددة مسبقا تلائم مرحلة ما قبل الدولة وتكون في صلبها المقاومة، حيث تختلف حركة التحرر بطبيعتها وشكلها وأنماط عملها عن أنماط العمل السياسي في حالة الدولة.

وتتميز أنماط العمل السياسي في حالة الدولة بالتنافس على الموارد السياسية، الاقتصادية والثقافية بين الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية في ظل وحدة سياسية مستقلة وذات سيادة. وبطبيعة الحال ترتبط هذه الوحدة السياسية بمنظومة من الاتفاقيات الدولية والإقليمية، ومنخرطة في شبكة علاقات دولية وإقليمية تفرض أو تمنع سلوكيات سياسية معينة في إطار فعلها السياسي.

وحالة الدولة تعني وحدة السلاح، وحصرية استعمال أساليب العنف والتي تكون ضمن صلاحيات الدولة فقط، كما أن التعددية في حالة الدولة هي تعددية سياسية تتمثل في الأحزاب والحركات السياسية، لا تعدد مليشيات عسكرية، والتي تكون تعددية فصائلية في مرحلة حركة تحرر.

في حالة حركة التحرر يتم تغليب الوحدة الوطنية على التعدد والتنوع الفصائلي، وكما كتب مرة عزمي بشارة في مقالة له بعنوان: "ما معنى الحديث عن "ديمقراطية فلسطينية"؟: "تعددية الفصائل على أهميتها في العديد من حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، ليست دليلا على ديمقراطية، وإنما هي دليل على الاستعداد لتغليب الوحدة الوطنية على الاختلافات والفوارق الأخرى، اختلاف المصالح واختلاف الآراء يؤطر هنا ضمن وحدة واحدة هي حركة التحرر الوطني، وهذا الاستعداد لتغليب الوحدة الوطنية على التنوع القائم في غياب الدولة وبسبب غيابها، أما في حالة وجود الدولة فيصبح السؤال ليس تغليب الوحدة الوطنية ضد العدو الخارجي على التنوع، بل يصبح الامتحان هو الاستعداد لقبول أولوية التعدد والاختلاف على الوحدة الوطنية التي تتحول إلى أيديولوجيا قمعية بيد أنظمة ديكتاتورية".

لا تتكوّن حركة التحرر الوطني من حركة سياسية أو تيار أيديولوجي واحد، ولكنها تتكوّن من حركات متعددة. وكانت التعددية الفصائلية الفلسطينية ممكنة في حالة حركة التحرر لأن القاسم المشترك بينها هو المقاومة ضد الاحتلال، واعتبرت الخلافات الأيديولوجية ما دون ذلك خلافات ثانوية.

وقد عبّرت منظمة التحرير عن حركة التحرر الوطني الفلسطيني، حيث كانت المنظمة بمثابة البيت لكل الفلسطينيين، والنظام الذي يستوعب كل الفصائل والأحزاب والجمعيات بغض النظر عن أيديولوجيتها وسياستها ما دامت تلتزم بالاستراتيجية الوطنية وهي استراتيجية المقاومة.

وهذا ما نصت عليه المادة 8 من الميثاق الوطني الفلسطيني حيث جاء فيها: "المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين، ولذلك فإن التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي فيما بين الصهيونية والاستعمار من جهة وبين الشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس فإن الجماهير الفلسطينية سواء من كان منها في أرض الوطن أو في المهاجر تشكل منظمات وأفرادا، جبهة وطنية واحدة تعمل لاسترداد فلسطين وتحريرها بالكفاح المسلح".

كما أن مرحلة حركة التحرر الوطني تفرض أنماطا من العمل السياسي ناتجة عن حالة الصراع مع الاستعمار أو الاحتلال، وتكون المقاومة في صلب الفعل السياسي لحركة التحرر، من دون أن تشكل غاية لذاتها، بل وسيلة وأداة لتحقيق برنامج سياسي تقرره حركة التحرر الوطني للوصول إلى حالة الدولة والاستقلال.


(باحث وأكاديمي فلسطيني/ أم الفحم)