ثناء على قهوة الصباح

11 يناير 2016
لوحة للفنان إغناسيو أوزيكه (Getty)
+ الخط -
-1-
تتصاعد رغوتها، كرغاء إبل أنهكتها مشاقات بوادٍ، غابت في مخابئها العميقات المياه العذبة... والنسوة الداخلات من بوابة البيت المفتوحة، يزدلفن على أرائك متقابلة، يرخين أثوابهن الواسعة لتلامس أقدامهن العارية، المضمومة بأحذية منزلية خفيفة، مبددات رائحة النوم الحامضة، بغسولات روائح الصابون الحامل في رغوته إكسير الغار وزيته الطافح باليقظة. غير متأكدات على وجه اليقين، إن طلع الصباح، لكنه وجه الليل ذرَّته بوارق شمس، تتكئ على لهب دافئ لا يزول.

كل شيء في متناول الأيدي، في هذه البيوت الضيقة، الركوة المعدنية المطلية بطبقة من البورسلان الأزرق، معلّقة على مسمار فوق مغسلة الأطباق والأواني، السبيرتايه المقفلة فوّهتها بغطاء معدني فوق الطاولة في الصالة، مطحنة البن النحاسية، التي تتشبّه بمئذنة مجلوّة بمياه المطر، مركونة في فراغ تحت الطاولة.. فناجين القهوة مصطفة كجنود مخذولين، خاسرين في معارك النظافة أطرافًا من أفواههم أو آذانهم أو أسنانهم، منافض السجائر فوق بعضها، الطبق المعدني الرقيق الذي يحمل الفناجين وأطباقها الخزفية، يقرقع من ثقلها وعدم توازنها، يظهر الصدأ على أطرافه، بعدما أكل ألوانه.

زائرات عديدات وفناجين قليلة، لكنها تكفي هذه اللقاءات الصباحية، التي تساعد على فكّ رتاجات الأيام الرطبة.
يرتشفن القهوة بخفر مؤنث، كأنهن يتذوّقن روح البن المذابة، لا يشرقنه بحسوات غليظة، تبدد طمأنينته. وكأنهن بذلك لا يردن للسائل الأسود أن ينتهي، قبل أن يفصح عن مكوناته.
يردن استبيان القادم من أيامهن، بقلب فناجينهن على فوهاتها، مسيلات طحلها الأسود، كدمٍ مهزوم متخثر، يبوح بخيوطه المنحنية عن دروب ودهاليز وأخاديد، وحروف مكسورة في استلقائها وانحنائها، يطلقن عليه بمهابة اسم قراءة الطالع. يصغين كل مع فنجانها الذي حملته القارئة المتفرّدة على مقعد وثير، بعدما تدوّره نحو اليمين واليسار وتحدّق في جوفه... تتحرى في خيوط القهوة المتيبّسة، تحاول استنطاقها وتحويلها إلى كلام رشيق، يفصح عن طمأنينة، تسكن عذابات هذي القلوب، التي أدمنت الارتجاف لأي هينمة في أحابيل الأيام.

اقرأ أيضًا : عالم السيدة لويزا

يبسطن أكفهن، كأنهن يتقدمن بتسبيحة لملائكة، يحدقن من وقت لآخر في أخاديد أكفهن، التي عمّقتها أحماض المنظفات وسوائل جلي الأطباق والأواني.

وكانت شفاههن بيضاء كأسنانهن. لما تصل بعد هذه الأخاديد إلى استبيانات للآتي، هي تبدأ وتنتهي على صفحة الأكف المنبسطة، التي بدأت تنتفخ من ترسبات الأملاح في الدم.
كثرت بعد ذلك الفناجين النظيفة المقلوبة على فوّهاتها العريضة، كما تراكبت أطقم فناجين جديدة زاهية بألوانها ورسوماتها، مختومة في صناديقها المستطيلة، لكن لم يبق زائرات لهذا البيت المهجور، فحينما تنخفض الحلاوة في الحياة، يرتفع السكر في الدم.

أقعدت الزئرات أمراض ثقيلة ترسّبت في أبدانهن، ككرات رصاص، وأمسين يتناولن أدوية أشد فتكاً بأبدانهن من الأمراض، ويتحرجن الاتكاء على عكازات غير مهيبة، ما إن تستندن إليها حتى تتقوّس أكثر من تقوّس ظهورهن. جمعتهن لسنوات رائحة القهوة ومذاقها الرائق، وإيناس مطالعاتها المخبوءة في انقلاب فناجيها، وبلاغة خيوطها، وبددتهن أثقال الأيام، التي أظهرت ما أخفاه جوف الفناجين.

-2-
أكثروا من احتساء القهوة الكثيفة المرة، تبلّوا بنكهة هالها الحادة، الكلام الخارج من أفواههم الجافة، اصطنعوا الضحك من أشياء تستحق عكسه. لكنهم حين يصمتون، يتبدّى حزنهم على مصائرهم وأحوالهم، تغضنات عميقة على جباههم، وقطرات خجولة تتيبس أملاحها على مآقيهم، كخيوط بيضاء مقطوعة من أرومتها.

الأحوال تغيّرت بسرعة، وتغيّر معها الكلام الذي كانوا يتبادلونه قبل بضع سنوات. يتداولونه بضرب من يأس، جاهدوا للتحرر منه، لكنه لا يكف عن ملاقاتهم بهيئات تنكرية؛ "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" ليس من الضرورة أن يستجيب القدر.

عملوا في وقت خلا على القبض على رسغ المستقبل، كأنما يفتحون مغاليق بوابات بيوتهم، تفصح انفراجاتها عن عالم موّار بحياة غير قابلة للتأويل الهيّن.

تجلس قربهم على طاولة، مجموعة من كبار السن، أمسوا يهزأون من الحرية، متناسين الزمن القريب حين كانوا يهزأون من الاستبداد.

- مزيداً من القهوة..
قهوة على ذكرى مدينتهم، التي تتصاعد روحها في الصباح كبخار، وتتكثف في الليالي الباردة قطرات ندى على نوافذهم المغلقة، متناسين لوهلة بإدمان شرابهم الأسود، أن اسمها الثلاثي الحروف، تحدّر من الحليب.
- هذه القهوة "الإكسبريسو" لا تترك أثراً، كما تلك التي نصنعها في البيت، لا فأل محجوبًا في جوف فناجينها المقلوبة، ولا مستقبل نتحرى طالعه في خيوطها الجافة؟

لا يكتفون بمعاتبة بعضهم، على هِنات عابرات، كإلقاء التحيات برفع الكفّ المنبسط إلى الجبين كما يفعل العسكريون، لا بالقبض على الراحة والشدّ على أصابعها المضمومة، كما يفعل الرجال الثقاة.. ها إنهم يعاتبون أزهار الفل؛ "كان عليها أن تكون أشدّ بياضاً وعطرية"، علّ أريجها يساعدهم في الاستدلال على طريق العودة إلى بيوتهم البعيدة، ولونها في القبض على أسراب التفاؤل المخاتل.

يتصاعد الكلام من طاولة اعتادها رهط من موظفين متقاعدين: "كان من الواجب ترويض هذا الربيع من بواكيره، كما يروّض الحوذيون الخيول".
كل الحركات قابلة للتوقف على حين بغتة، لا عضلة القلب فحسب، حركات تتوقف من دون إنذار، من دون إبراق أو ضوء يتوهّج قبل انطفائه النهائي، أو رمشة منذرة من أهداب الزمن المتقادم، ينبغي أن نستعد لمثل هذا التوقف المباغت، ونبلغ أهلنا على الأقل، إن بقي لنا أهل.

اقرأ أيضًا : موسم العطور
دلالات
المساهمون