ثمانية أخطاء استراتيجية في الحركة الفلسطينية

27 سبتمبر 2019
+ الخط -
هذه محاولة للتفكير خارج السرديات المتعارف عليها في الكتابات التي تروي تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة؛ إذ عادة ما تهتم تلك النصوص بسرد الرواية التاريخية للوقائع، وتمجيد المعارك والبطولات، فرديةً وجماعية، وتخليد الشهداء وذكر مآثرهم. وعلى أهمية ذلك كله وضرورته، إلّا أن ثمّة حاجة ملحة لتناول التجربة الثورية الفلسطينية من منظور آخر، لا يمسّ منجزاتها وبطولاتها، بقدر ما يحاول أن يتلمّس أسباب إخفاقاتها، ونقاط التحوّل الكبرى في مسيرتها، ما حالَ بينها وبين تحقيق حلم الشعب الفلسطيني في التحرير، على الرغم من أنها أكبر حركة تحرّر وطني معاصرة، وأطولها مدة. 
تنحصر هذه المقالة في ما يعتقد الكاتب أنها ثمانية أخطاء استراتيجية وقعت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية، فحوّلتها عن مسارها، وحرفتها عن أهدافها الأولى، وأدّت إلى إضعافها، وحمَلتها على تقديم تنازلات متتالية، ما انعكس على مسيرتها، وأوصلها إلى حالها الآن. متجنبًا بذلك أي نقد آخر قد يوجّه لهذه الحركة، على أهميته، بما يتعلق ببنيتها التنظيمية أو الفكرية، أو تجربتها العسكرية وممارساتها العملية.
يتعلق الخطأ الأول بتجربة حركة المقاومة الفلسطينية بين عامي 1967 و1971؛ وهي التجربة التي أدّت إلى صدام أيلول/ سبتمبر 1970 مع الجيش الأردني، وخروج المقاومة المسلحة من الأردن. قيل وكتب الكثير عن هذه التجربة، وتضمّن ذلك نظريات متنوعة عن المؤامرة التي تعرّضت لها الثورة في محاولة لتصفيتها، بمشاركة الرجعية العربية والصهيونية والإمبريالية. وثمّة من حاول إبداء قدرٍ من النقد الذاتي، فراجت مقولات عن تجاهل الحركة الوطنية الأردنية وإضعافها والحلول مكانها، على الرغم من أن الأحزاب المعروفة على الساحة الأردنية كلها، في ذلك الوقت، باستثناء حزب التحرير الإسلامي، قد شكّلت فصائل مسلحة (الناصريون والقوميون والبعثيون بجناحيهم، والشيوعيون، وحتى الإخوان المسلمون من خلال قواعد الشيوخ في "فتح").
وهناك من تحدث عن التأثير السلبي لتعدد فصائل المقاومة، ولجوء المقاومة إلى المدن، وعدم فهم تركيبة المجتمع الأردني، والممارسات الفردية الخاطئة، وضعف قدرة المقاومة على استيعاب الزخم الجماهيري وتنظيمه وتأطيره، وخطف الطائرات، والشعارات المتطرّفة التي غلبت على التنظيمات اليسارية (مثل شعار "كل السلطة للمقاومة"، ما جعلها نقيضًا وبديلًا للنظام الأردني)، وارتهان بعض الفصائل لأنظمة عربية، والعمل بموجب إملاءاتها على الساحة الأردنية.
ولكن ما سبق بمجمله لم يتطرّق إلى القصور الواضح في تحليل العلاقات العربية، والفهم الدقيق لموازين القوى التي كانت سائدة بين دولها، فمعلوم أن سياسة الأردن ارتبطت بشكل كامل منذ 
حرب حزيران/ يونيو 1967 بسياسة الرئيس جمال عبد الناصر؛ إذ لم يتخذ الأردن، خلال هذه الفترة، موقفًا واحدًا مغايرًا للسياسة المصرية، كما أن الشخصيات التي تسلّمت الحكم وتولّت تأليف الحكومات الأردنية، كانت محسوبة تاريخيًا على السياسة المصرية، فالسمة الدارجة لدى اختيار شخصية ما لتأليف الحكومة هي مدى قربها من المحور الذي يرغب الملك في التقرّب منه أو الانضمام إليه. وفي الوقت ذاته، حظيت المقاومة الفلسطينية بدعمٍ كبيرٍ من عبد الناصر، ما أسفر حينها عن تولي ياسر عرفات رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وإذا اضيف إلى ذلك وجود الجيش العراقي في الأردن، والدعم الذي قدّمه الجيش الأردني في إسناد الدوريات الفدائية العابرة للنهر، ومعركة الكرامة، والاشتباكات المتكرّرة بين الجيش الأردني والعدو الصهيوني، فإن الصورة ينبغي أن تكتمل على نحو مغاير تمامًا لما آلت إليه الحوادث.
ولافت أن المقاومة الفلسطينية تبنّت، في أدبيّاتها، مفاهيم حرب التحرير الشعبية، وتأثرت بالتجربتين، الفيتنامية والصينية، واللتين طبّقتا مفهوم الجبهة الوطنية المتحدة ضدّ الاحتلال الياباني في الصين، والفرنسي في فيتنام، ودعت إلى حشد القوى كافة، على ما بينها من تناقضات، في مواجهة العدو الرئيس. لذا، السؤال الذي يصبح ملحّا، وبعيدًا عن مدى مسؤولية النظام الأردني أيضًا، هو لماذا لم تنجح، بل لم تحاول، المقاومة أن تؤسّس لجبهة وطنية متحدة تجمع بينها وبين النظام الأردني، حتى تتم إزالة آثار العدوان على الأقل؟ وهو ما كانت تفرضه موازين القوى والتحليل السياسي الدقيق لأطراف الصراع ومفاهيم الحرب الشعبية.
برنامج النقاط العشر في 1974 كان الخطأ الاستراتيجي الثاني؛ إذ كان بداية المسار الفلسطيني المعلن نحو التسوية السياسية. فصول الرواية بدأت عندما خيّر الرئيس أنور السادات القيادة الفلسطينية، بعد حرب أكتوبر 1973، بين أن تُدعى إلى مؤتمر جنيف للسلام وتشارك في مسار التسوية، والتي، على حدّ زعمه، ستؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أن يُدعى الأردن، وكأن خيار الانسحاب الإسرائيلي قد أصبح واقعًا، وأن المشكلة تكمن في من سيتسلّم الأرض الفلسطينية المحتلة، الأردن أم منظمة التحرير.
في هذه المرحلة رُوّج لإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وإن كانت قد وُصفت بالمقاتلة، وقيل إنها ستقوم على أي أرض تتحرّر من الاحتلال، ووُصف البرنامج بأنه مرحلي، ما يعني أنه خطوة على الطريق. عمليًا، كان برنامج النقاط العشر بمنزلة تذكرة عبور إلى مسار التسوية، ومن يومها تغيّر الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية من تحرير فلسطين كلها وإقامة الدولة الديمقراطية فيها إلى المطالبة بسلطة وطنية على جزءٍ منها. تغيّرت الاستراتيجية، وتغيّر المسار، واختلف الهدف.
بعد الخروج من الأردن، خاضت الثورة الفلسطينية في لبنان أكبر معاركها، أكان ذلك ضدّ العدو الصهيوني، أم دفاعًا عن الثورة وبقائها ووجودها. تأثّر الوجود الفلسطيني المسلّح بالسعي نحو الحصول على مقعد في قطار التسوية. وبدلًا من أن يكون لبنان قاعدة ارتكاز حقيقية، تحوّل إلى ورقة ينبغي التمسّك بها من أجل إظهار نقاط قوة منظمة التحرير، وحمل الأطراف الأخرى على الاعتراف بها لاعبًا في المنطقة، وطرفًا في عملية السلام المرتقبة.
قاد ذلك إلى شبكة من التحالفات المتغيّرة، وإلى الدخول في دوّامة الحرب الباردة بين المعسكرين، الأميركي والسوفياتي، ما كاد أن يوصل إلى التورّط في تقسيم لبنان، وارتكاب سياساتٍ خاطئة، 
مثل عزل حزب الكتائب اللبناني، القرار الذي كرّس الحزب قائدًا للمعسكر المسيحي في لبنان، وإلى تغليب التحالف مع قوى على حساب قوى أخرى، والتدخّل في نزاعاتها على مناطق نفوذها. انعكس ذلك على علاقة الثورة بالجماهير اللبنانية، والجنوبية منها خصوصا، كما انعكس على مجمل استراتيجية الوجود الفلسطيني المسلّح وطبيعته، وأماكن انتشاره، ومهماته، وهو ما شكّل الخطأ الاستراتيجي الثالث، بتحويل لبنان من قاعدة ارتكاز ثورية إلى ورقة مساومة إقليمية تتنازعها جهات مختلفة، حاولت القيادة الفلسطينية أن تمسك بها، لعلّها تستخدمها في تقوية موقفها التفاوضي، وجعلها أكثر قبولًا، لكن ذلك زجّ بها في نزاعات متعددة.
لم يكن طريق السلام المزعوم مفروشًا بالورود، ولم تحظَ منظمة التحرير الفلسطينية بالترحيب، عندما أبدت رغبتها في الانضمام إليه، بل واجهت مقاومة ضارية، تمثّلت بمحاولات ضربها وتصفيتها تارة، وبمحاولة انتزاع تنازلاتٍ إضافيةٍ منها تارة أخرى، بحجة تأهيلها للاعتراف بها ممثّلا للفلسطينيين في عملية التسوية. وهكذا، ومنذ عام 1974 وحتى اتفاق أوسلو، كانت سياسة العصا والجزرة هي السائدة.
منذ قرار القمة العربية في الرباط، في عام 1974، والقاضي بالاعتراف بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، والمنظمة تخوض معركة التمثيل، فالقرار لم يكن كافيًا لحمل الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فضلًا عن الكيان الصهيوني، على قبول ذلك، وفضلًا عن أن بعض الدول العربية رأت في القرار إعفاءً لها من مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، بينما حاولت دول أخرى وضع العراقيل في طريق تحقيقه، معتقدة أن ذلك يُنازعها فرص مشاركتها هي في عملية السلام. ومنذ ذلك الحين، تخوض المنظمة معركة التمثيل تلك، في محاولة للحصول على اعتراف أميركي – أوروبي، لصفتها التمثيلية، مقدمة أولى لاعتراف صهيوني بها.
يلاحظ من يتتبع دورات انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني تنازلًا إضافيًا في كل دورة يعقدها المجلس، انتهاءً بالوصول إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. أما من يتتبع محاضر الاجتماعات واللقاءات والمباحثات بين المنظمة وأطراف أخرى عربية ودولية، فسيلاحظ أنها تكاد تكون خاليةً من أي حديث عن الحقوق الفلسطينية التي على الأطراف الأخرى الاعتراف بها، وتكاد تكون محصورةً بالشروط الواجب توفرها في المنظمة ليتم القبول بها في عملية السلام، مثل نبذ الإرهاب، والاعتراف بقرار 242، ومبادرة الرئيس الأميركي ريغان، والمبادرة العربية، اعتبار الميثاق لاغيا (كادوك)، وصولًا إلى الاعتراف بإسرائيل.
أما من يتتبع محاضر الاجتماعات الأردنية – الفلسطينية، والاجتماعات العربية - الأميركية، (والمحفوظة في أرشيف ذاكرة فلسطين في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، بعد أن أبدت منظمة التحرير حسن النيات المطلوبة منها، فسيلاحظ أيضًا أنها خلت من أي ترتيبات لانسحاب إسرائيلي، أو حديث عن حقوق فلسطينية، وانحصر البحث فيها في شروط التمثيل الفلسطيني، من داخل أو خارج المنظمة، من شخصياتٍ في الأرض المحتلة أو من شخصيات خارجها، ومدى الإعلان المسموح به بشأن اختيار المنظمة لهم، أكان ذلك تلميحًا أم تصريحًا، وكيف هي صيغة الوفد الفلسطيني؛ مستقلا أم ضمن وفد عربي أم تحت مظلة الوفد الأردني. واستمرت هذه المباحثات أعوامًا طويلة بين منظمة التحرير والأردن والعرب، ليتولى هؤلاء نقلها إلى الإدارة الأميركية التي تعود دومًا بمطالب جديدة.
ويستطيع كاتب المقالة أن يؤكد أن موضوع الحقوق كان غائبًا تمامًا، وأن هوية الجهة التي ستمثّل الفلسطينيين كان محور الصراع أعواما طويلة، وهو ما انعكس تمامًا على اتفاق أوسلو حين اعترفت منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود، في حين اعترفت إسرائيل بالمنظمة جهة وحيدة لتمثيل الفلسطينيين في مفاوضات الحل النهائي.
نتج عن أولوية التمثيل على الحقوق صراعات فلسطينية - عربية مع الأردن ومع سورية، 
وانقسامات فلسطينية، وصراع خفي أحيانًا ومعلن أحيانًا أخرى، بين الفصائل في الخارج شخصيات الداخل الفلسطيني. والأهم، أن مسألة الحقوق الفلسطينية لم تكن هي المدرجة على جدول الأعمال، وهذا هو الخطأ الاستراتيجي الرابع.
أما الخطأ الاستراتيجي الخامس، فتجلّى بأوضح صوره في موقف القيادة الفلسطينية من اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين للكويت في عام 1990. لم تدرك القيادة الفلسطينية المتغيّرات في الوضع الدولي، وأن الحرب الباردة قد انتهت، وأن ما يحدُث ليس مجرد أزمة دولية عابرة. ولم تستوعب معنى حشد نصف مليون جندي في الخليج العربي. وظلت مقتنعةً بأن الاتحاد السوفياتي ودولا أوروبية قادرة على منع الحرب، وأن الأزمة ستُحل بتسوياتٍ سعت إلى أن يكون لها منها نصيب، عبر معادلة متوهمة تفترض انسحابا عراقيا من الكويت في مقابل انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة.
شكّل هذا الفهم قصورًا فادحًا في رؤية الوضع الدولي وتوازناته الجديدة، لم تدرك القيادة الفلسطينية أن عهد القطبين، الأميركي والروسي، قد انتهى، وأن ثمّة ميزان قوى استجدّ نتيجة لهذه المتغيرات. ونجم عن هذا الموقف عزلة عربية كاملة، واجهها ياسر عرفات الذي ما عادت طائرته تجد مطارًا عربيًا تحلّق منه أو تهبط فيه. في ظل هذه الأجواء، كان هروب عرفات باتجاه الخطأ الاستراتيجي السادس، وهو اتفاق أوسلو، والذي وُقّع في عام 1993.
ففي وقتٍ كانت تجري فيه في مدريد وواشنطن مفاوضات بين وفد فلسطيني - أردني مشترك، ضم شخصياتٍ من الأراضي المحتلة، بغطاء وموافقة من منظمة التحرير، كانت هناك قناة سرية في العاصمة النرويجية، أوسلو، تجري عبرها مفاوضات مباشرة بين منظمة التحرير وإسرائيل، وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاق عُرف باتفاق أوسلو (إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي المحدود). وجاء إعلان هذا الاتفاق ليفاجئ الوفد الفلسطيني في مدريد وواشنطن، والدول العربية، والولايات المتحدة نفسها، حيث جرت المباحثات في أجواء من السرّية المطلقة. بعد أكثر من ربع قرن على الاتفاق، فإن كوارثه أكثر من أن تُحصى، فضلًا عن اعتراف المنظمة بحق إسرائيل في الوجود الذي قابله فقط اعتراف إسرائيل بالصفة التمثيلية للمنظمة، فإن الاتفاق أحال جميع الحقوق الفلسطينية، مثل الانسحاب والحدود والقدس وحق العودة والأسرى، إلى مفاوضات الوضع النهائي التي أخفقت. كما أحال جميع القضايا الفرعية، مثل المياه والاقتصاد والموارد الطبيعية، إلى مفاوضاتٍ أخرى كرّست الهيمنة الصهيونية على جميع مناحي الحياة. أما الأسوأ، فكان في تجاهل اتفاق أوسلو الكامل لفلسطينيي الشتات، وللفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ عام 1948، أي أن "أوسلو" قد كرّس تقسيم الشعب الفلسطيني، وتعامل مع جزء واحد من مكوناته.
إذا كان ياسر عرفات قد فرّ من العزلة العربية إلى اتفاق أوسلو، فقد قرّر، بعد فشل محادثات كامب ديفيد للوصول إلى حلول لقضايا الوضع النهائي عام 2000، الهروب إلى الأمام عبر تفجير انتفاضة ثانية، وأراد نتائج سريعة لها، لذا لجأ إلى عسكرتها، ولم يسعَ إلى نموذج الانتفاضة الأولى التي عُرفت باسم "انتفاضة الحجارة". قدّر أنه منح الإسرائيليين فترة أمن وسلام ذهبية، وكان يريد الأرض مقابل السلام، واعتقد أن دفع خلايا إلى القيام بعمليات عسكرية تُلحق خسائر كبيرة بالإسرائيليين سيدفعهم إلى التنازل، في حين يضبط هو من جديد الأمور ويسيطر عليها في الوقت الملائم. ولكن الحسابات لم تكن دقيقة هنا أيضًا، فقد واجهت القيادة الإسرائيلية هذه العمليات التي غلب عليها الطابع الاستشهادي بمزيدٍ من العنف واجتياح المدن والقرى الفلسطينية، بما في ذلك حصار مقرّ عرفات في رام الله وقصفه. كما أن أبو عمار لم يستطع ضبط إيقاع الانتفاضة وتهدئتها أو إشعالها عندما يريد. وباستشهاد عرفات الذي اكتشف عقم "أوسلو" مبكرًا، وحاول الانقلاب عليه، انتهت مرحلةٌ لتبدأ مرحلة أخرى أكثر كارثية، سنطلق عليها اسم "مرحلة إعادة إنتاج أوسلو"، وهي الخطأ الاستراتيجي السابع.
تميّزت مرحلة إعادة إنتاج أوسلو بالنقد الشديد الذي وُجّه للانتفاضة الثانية، ولأيّ شكل من المقاومة، وبتأكيد الرغبة بالسلام، واللهاث وراء المفاوضات، على الرغم من الرفض الصهيوني، والتمسّك بحل الدولتين الذي ابتلعته المستوطنات الصهيونية. ويمكن أن تُسمى هذه المرحلة "مرحلة التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال"، حيث عملت الأجهزة الأمنية الفلسطينية على ضمان الأمن الإسرائيلي، وبإشراف أميركي مباشر، ضمن "خطة دايتون".
في هذه المرحلة، تحوّلت المدن الفلسطينية إلى جُزر معزولة، وأُقام الاحتلال الجدار العازل،
 وتكرّست السيطرة الصهيونية على جميع مناحي الحياة، وأصبحت السلطة الفلسطينية بلا سلطة، وصار الاحتلال الصهيوني مجانيًا لا يتحمّل المحتل أعباءه، ضمن عجز كامل للسلطة الفلسطينية عن مواجهة إجراءاته اليومية.
أما الواقع الفلسطيني اليوم، فهو الخطأ الاستراتيجي الثامن والمستمر. ثمّة انقسام، وعجز كامل لدى السلطة عن القيام بخطوات جدية لمعالجة الواقع الحالي الذي تتزايد فيه احتمالات ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، بحيث لن يبقى للفلسطينيين سوى جُزر معزولة. ثمّة رفض لفظي لصفقة القرن وللإجراءات الإسرائيلية، ولكن لا توجد أي خطوات عملية لمواجهتها، لا توجد أي استراتيجية فلسطينية لمواجهة المستقبل الذي باتت معلومةً أغلب تفصيلاته، والجسد الرسمي الفلسطيني يقبع مستسلمًا لما هو آتٍ من دون أن يبدي أي حراك، مع أن في المستطاع، لو توفرت إرادة تغيير ثورية، أو كفّت السلطة عن بيع الوهم للشعب الفلسطيني، وتوقّفت سياسة التنسيق الأمني، أن تندلع حالة ثورية جديدة في فلسطين تجمع شتات الشعب، وتقاوم "صفقة القرن" ونظام الأبارتايد والتمييز العنصري، كما تقاوم جميع محاولات التطبيع العربي مع الصهاينة، والتي تشكّل بديلًا صهيونيًا لتصفية القضية الفلسطينية.
تلوّح القيادة الفلسطينية بإجراءات، لكنها لا تجرؤ على وضعها موضع التنفيذ، مثل إلغاء العمل بالاتفاقات، أو وقف التنسيق الأمني المستمر، لكن كل حصيف يدرك أن لا شيء من هذه الإجراءات سيتم، ولا قدرة للسلطة على ذلك. في الوقت الذي نلمح فيه استعداداتٍ إسرائيلية لإنهاء الدور الوظيفي للسلطة، بعد أن استنفد أغراضه، وإعادة الإدارة المدنية، مع أشكال من الحكم الذاتي المحدود والمسيطَر عليه من أجهزة التنسيق الأمني.
أصبح موضوع السلطة الفلسطينية مفروغًا منه، وينبغي تجاوزه باتجاه مرحلةٍ جديدةٍ خالية من الأخطاء الاستراتيجية المتكرّرة، وأول أهداف هذه الاستراتيجية الجديدة يكمن في التمسّك بروايتنا التاريخية في مقابل الرواية التوراتية الصهيونية، فقد أثبتت التجارب أن فلسطين لن تقبل بأنصاف الحلول، ومن هنا تكون البداية.
34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.