08 نوفمبر 2024
ثقافة التلصص
في بدايات الثورة السورية، انتشرت مواقع إلكترونية مخابراتية، يشرف عليها كتاب سوريون، أعلنوا ولاءهم للنظام منذ اللحظة الأولى، تولت الإساءة للمثقفين السوريين المنحازين للثورة. كان نصيب النساء منها كبيراً، لم تبق كاتبة أو ممثلة أو شخصية عامة وقفت إلى جانب الثورة إلا وطالتها مقالات الإساءة وتشويه السمعة في تلك المواقع. طبعا، كان للحياة الشخصية لهذه السيدة أو تلك نصيب أكبر من المقالات، الحياة الشخصية بتفاصيل عادية يومية، وبأخرى مؤلفة ومخترعة. كان ثمة شيء آخر مثير للدهشة: كان بعضهم يسرد قصة قديمة عن سيدةٍ، لا يعرفها إلا قلة قليلة من أصدقائها المقربين، حصل هذا مع كثيرات، أنا منهن. كان واضحاً أن ثمة صلة ما بين كاتب المقال وأحد الأصدقاء القدماء القلة، أو بين أحد هؤلاء وبعض أجهزة الأمن. كان واضحاً، أيضا، أن بعض من كانوا أصدقاء يوما مارسوا مهنة التلصص على حيوات أصدقائهم الشخصية والخاصة، واستخدموها سلاح تشويه في الخلاف السياسي، من دون مراعاة لأخلاق الصداقة والعشرة الطويلة.
المذهل أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم من النخب المثقفة التي تدّعي التنوير والانفتاح والتحرر الاجتماعي. لهذا، لم يكن مفاجئاً بعدها أن تتبنى صفحاتٌ مؤيدة يديرها مراهقون مقالات من هذا النوع وتنشرها، طالما من يفترض بهم الموضوعية والترفع عن الشخصي هم من يكتبونها ويروجوها. لا بأس، جزء مما قامت الثورة من أجله، هو هذه الثقافة التلصصية الأمنية، التي استطاعت ذهنية الاستبداد تكريسها في المجتمع عقوداً، على ما تبيّن لاحقاً أن الأمر لم يختلف بين مؤيدي النظام ومعارضيه، بين من وقفوا مع الثورة ومن هم ضدها. مارس الجميع هذه الثقافة التلصصية في خلافاتهم السياسية، حتى في الخلافات غير الجذرية، حتى في الخلافات بين أبناء الخندق الواحد. كانت الحياة الشخصية والخاصة المستهدفة، بحيث يبدو أن من يشهّرون بالآخرين هم حراس الفضيلة الاجتماعية، من النسّاك والزاهدين الذين يقضون أوقاتهم بالدعاء للثورة، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتنزهون ولا يقعون في الغرام، ولا يعاشرون أحداً ولا يسهرون إلا للعبادة والثورة، ولا يرتكبون أية خطيئة، بينما من يتناولون زنادقة خطائين بائعو الثورة والأخلاق الحميدة، ولا بأس هنا من استخدام كل ما يحرم استخدامه أخلاقيا في سبيل الإساءة للمستهدف، فالأخلاق محصورة في السياق الذي تم السير عليه اجتماعياً، زمناً طويلاً، هو السياق نفسه الذي كرّسه نظام الاستبداد المتحالف مع مؤسسة دينية، تضع مصالحها قبل أي اعتبار آخر، حرية الفرد الشخصية، حريته في علاقاته وجسده ومعتقده، وفي رأيه وسلوكه الشخصي.
هذه الحرية هي ما يمس الأخلاق العامة والوطنية، وما يجب التعرض له والتشهير به، أما الفساد السياسي والمهني والإداري والاقتصادي والوطني فمما لا يُمس. هذا ما كان عليه المجتمع، وهذا ما كان يجب أن يُثار عليه. وللأسف، هذا ما استمر لدى الجميع، وربما أصبح أكثر وضوحاً مع الاستخدام المعمم لوسائل التواصل الاجتماعي، فالتشهير هنا سهل جداً، والتلصص على الصفحات الشخصية أسهل، وبناء شبكة من البروفايلات، الحقيقية والوهمية، مهمتها التشهير والإساءة، أصبح بمتناول الجميع، والمصفقون أيضاً كثر، والمصدقون المروجون جاهزون. إذاً، لمَ لا يتم استهداف من يؤمن بحقه بالحرية الشخصية، ويزاولها علناً وسراً، طالما أن رأيه لا يتناسب مع رأي المجموع؟ لا مانع إذاً من تصويره سراً، ونشر الصورة باعتبارها فضيحة، ولا مانع من استفزازه ليقول علناً ما يقوله كثر سراً، ثم نشر ما يقول باعتباره خيانة، ولا مانع من تصيّد كلماته وكتاباته، وتحويلها إلى مادة للتشهير، لا مانع من ذلك كله، طالما أن من يفعله يتغطى بغطاء الثورة، كما تغطى من فعله من مؤيدي النظام بغطاء الوطن!
أيها السادة: (حلّو عنا)، نريد أن نحيا، ونتفس هواء حراً نظيفاً خالياً من فيروساتكم المؤبدة.