ولم تتراجع "ثاتشر" الجديدة عن موقفها بعدم الاستعداد للاستجابة للضغوط الأوروبية، وعدم تفعيل المادة 50 من ميثاق لشبونة، وإطلاق المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، قبل نهاية العام الحالي، وقبل إتمام فريقها الحكومي من وضع استراتيجية واضحة تؤدي إلى خروج آمن وسلسل من الاتحاد الأوروبي. كما أن الضغوط الخارجية لا تدفع ماي للقفز عن الإجراءات الواجب اتباعها في المؤسسات الدستورية البريطانية قبل تفعيل المادة 50 من ميثاق لشبونة، لا سيما ضرورة إعطاء مجلس العموم الوقت الكافي للتداول بشأن نتيجة استفتاء يونيو/حزيران الماضي، والتصديق عليه، لتفادي أي مطبات قانونية، لا سيما بعد توقيع أكثر من ألف محام على رسالة تطالب الحكومة البريطانية بضرورة عرض نتيجة الاستفتاء على البرلمان بوصفه السلطة التشريعية التي تعبّر عن الإرادة الشعبية.
كما باشر أشخاص وشركات قانونية التقدم بدعاوى على أساس أن رئيس الوزراء ليس من حقه تفعيل المادة 50 من دون نقاش مستفيض وتصويت في البرلمان، الذي ينبغي أن يكون له "دور" في إيجاد "الطريقة الأمثل للمضي قدماً"، ذلك أن التشريع لا يلغى إلا بتشريع آخر، وفق الأعراف الدستورية. وعليه، فإن موافقة البرلمان مطلوبة لمنح رئيس الوزراء سلطة تفعيل المادة 50 من ميثاق لشبونة، وبدء إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أما الرسالة الثانية التي وجهتها رئيسة الوزراء الجديدة للاتحاد الأوروبي تمثّلت في هيمنة "صقور البريكسيت" على التشكيلة الوزارية. ويبدو أن ماي تعمّدت ضم وزير التجارة الدولية، ليام فوكس، وهو من أقطاب اليمين في حزب المحافظين، ومن أشد المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإسناد وزارة "البريكسيت" الجديدة لوزير الشؤون الأوروبية السابق، ديفيد ديفيس، الذي يعتبر من أعتى المحافظين المؤيدين للخروج من الاتحاد.
كما عيّنت زعيم حملة "الخروج" أثناء الاستفتاء الأخير، بوريس جونسون، على رأس وزارة الخارجية، للتأكيد للمسؤولين الأوروبيين أن بريطانيا عازمة على المضي في الخروج من الاتحاد، ثم تحذير هؤلاء المسؤولين من مفاوضات "خروج" قاسية بين الجانبين. وهذه الرسالة سيفهمها رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، الذي طالما سخر ممن وصفهم بـ"الأبطال البائسين" لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذين قال "إنهم تخلوا عن القضية". كما عيّنت فيليب هاموند وزيراً للمالية، الذي دعم منذ البداية وصول ماي إلى رئاسة الحكومة. وهو يحسب على المشككين بالتجربة الأوروبية، إلا أنه اختار الوقوف إلى جانب رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون الذي اختار الدفاع عن البقاء في الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، أقالت ماي وزير العدل مايكل غوف، الزعيم السابق لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقاد غوف حملة "الخروج" إلى جانب جونسون، ثم حاول الترشح لقيادة حزب المحافظين، وهو منصب سعى إليه جونسون كثيراً. كما أقالت وزيرة التعليم نيكي موغان، التي دعمت حملة غوف القصيرة لزعامة الحزب.
ولطالما روّج معارضو الاتحاد الأوروبي أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يعني بالضرورة التوقف التام للتعاملات التجارية والاقتصادية بين بريطانيا والاتحاد، بعد إتمام إجراءات الخروج النهائي. ويمكن لهذه العلاقة، وفقاً لهؤلاء، اتباع أحد السيناريوهات الثلاثة التالية: الأول، "النموذج النرويجي" الذي يعني أنه يمكن لبريطانيا الانضمام للمنطقة الاقتصادية الأوروبية، وبالتالي الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة مع إمكانية الدخول إلى بعض الخدمات المالية، ولكن مع تحريرها من قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالزراعة، ومسائل العدالة، والشؤون الداخلية.
أمّا الثاني، وهو "النموذج السويسري"، يعني أن تصبح بريطانيا مثل سويسرا، ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي لكنها تتفاوض معه على اتفاقيات تجارية على أساس قطاع بقطاع من خلال اتفاقيات ثنائية متعددة. والسيناريو الثالث يشبه "النموذج التركي"، وهذا يعني أن تقوم بريطانيا بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، إذ يتم إعفاء بريطانيا من حرية حركة المواطنين الأوروبيين، في المقابل يفقد البريطانيون حقهم في الحركة داخل الاتحاد.
ويبدو أن ماي تعمدت من خلال تعيين "صقور البريكسيت" توجيه رسالة إلى الداخل البريطاني أيضاً، تؤكد من خلالها أولاً تأييدها للخروج، ورفضها الدعوات لإجراء استفتاء ثان، مؤكدة أن "بريكسيت يعني بريكسيت"، وأنّ هناك وزيراً سيتولى الإشراف على تنفيذ الإرادة الشعبية لـ52 في المائة من الشعب البريطاني صوتوا لمصلحة الخروج، على الرغم من تحديد مجلس النواب جلسة خاصة في سبتمبر/أيلول المقبل لمناقشة عريضة تدعو الى إجراء استفتاء ثان، بعد إبداء أكثر من مليون شخص ندمهم للتصويت لمصلحة الخروج.
وأوضحت ماي، سابقاً، أنها ستحترم إرادة الشعب البريطاني التي عبّر عنها في استفتاء الشهر الماضي، وأنها لن تجري أي محاولات للبقاء في الاتحاد الأوروبي، ولا أي محاولات للعودة إليه من الباب الخلفي، ولا استفتاءً ثانياً ما دامت البلاد اختارت الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
أما الرسالة الأخرى التي وجهتها ماي للمتخوفين من تراجع دور بريطانيا على الساحة الدولية، تمثلت بوعدها في صياغة مستقبل جديد قوي للمملكة المتحدة في العالم، بالتوازي مع القيام بمهمة خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي. وقالت ماي "سنرتقي إلى مستوى التحدي، بينما نترك الاتحاد الأوروبي، سنصيغ دوراً إيجابياً قوياً لأنفسنا في العالم". وتساءل المراقبون عن طبيعة ذلك الدور الذي تعنيه ماي بعد تسليمها مقاليد السياسة الخارجية لعمدة لندن السابق، بوريس جونسون، وهو الأمر الذي أثار ردود فعل متباينة في أنحاء من العالم، على مستوى المسؤولين ووسائل الإعلام.
في هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، أمس الخميس، أن تعيين بوريس جونسون وزيراً للخارجية في بريطانيا لا يثير قلقه، لكنّه شدد على أنه بحاجة إلى شريك "يتمتع بمصداقية ويمكن الوثوق به". وقال إيرولت، لإذاعة "أوروب 1"، "ليس لدي أي مخاوف حول جونسون، لكنكم تعلمون أسلوبه وطريقته"، مضيفاً أن جونسون الذي تزعم معسكر مؤيدي الخروج "كذب كثيراً" خلال الحملة قبل الاستفتاء. وأضاف أن اختيار ماي لجونسون "دليل على الأزمة السياسية التي تمر بها بريطانيا بعد التصويت".
ويبدو أنّ برلين فهمت رسالة ماي، إذ نقلت صحيفة ألمانية، أمس الخميس، عن وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، قوله إن "تعيين بوريس جونسون وزيراً للخارجية في بريطانيا إشارة واضحة إلى أن بريطانيا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وينبغي أن تقدم لندن الطلب الرسمي بهذا الخصوص قريباً". وقال شتاينماير لصحيفة "بيلد أم زونتاغ" اليومية، "يمكننا حالياً أن نتوقع أيضا من رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي أن تنهي حالة الغموض في أقرب وقت ممكن، وتقدم الطلب الرسمي للخروج من الاتحاد الأوروبي". ووصف شتاينماير جونسون بأنه "متمرس في الشؤون الحزبية عرف كيف يستغل شكوك البريطانيين حيال الاتحاد الأوروبي".