تيد بندي... القاتل بوصفه عرضاً جانبياً للنظام

05 فبراير 2019
كان ناشطاً سياسياً وشخصيةً لافتة للأنظار (Getty)
+ الخط -
يُصادف هذا العام الذكرى الثلاثين لإعدام القاتل المتسلسل الأميركي تيد بَندي بالكرسيّ الكهربائي. بهذه المناسبة، إن صحّ أن ندعوها كذلك، أطلقت نتفليكس سلسلة وثائقية من أربع حلقات عن سيرة بَندي بعنوان "حوارات مع قاتل: أشرطة تيد بندي" (Conversations  with a Killer: The Ted Bundy Tapes).

تتداخل في السلسلة شهادات من عاصروا القاتل الشهير، مع 100 ساعة من الأشرطة الصوتيّة المسجلّة، التي أنجزها مع الصحافيّين ستيفن ميتشوود وهيو أينسورث، بين عامي 1980 و1989.

أثارت ردود فعل من شاهدوا الفيلم حنق نتفليكس نفسها، التي دعت المشاهدين إلى عدم التعاطف مع بَندي، لكون الكثيرين أسرّوا بسحره، ورؤوا فيه رجلاً لطيفاً ومهذباً، بل وجذاباً. ومن هنا، يمكن فهم ما يحاول الوثائقي أن يخبرنا إياه؛ فخطورة الرجل تكمن بأنه يشابه الجميع؛ هو فنان تنكُّر، لا يختفي، لكن يتقنّع على أنه شخص عادي، يلفت الانتباه إلى الحدّ الكافي كي ينال ما يريد، ويأسر من حوله من دون أن يتحوّلوا إلى مهووسين به، وهذا ما جعله دائماً يُنكر جرائمه، ويتحبب لمن هم حوله، بل إن الكثيرين لا يصدقون أنه ارتكبها، فهو "أجمل من أن يكون قاتلاً متسلسلاً"، كما تقول إحدى الفتيات اللواتي تابعن محاكمته.

لفَهم بندي، والإطار الذي يظهر ضمنه في الفيلم، علينا تجاهل مفهوم الجريمة، التي لا نقاش بأنه من أفظع مرتكبيها، والنظر إليه كجزء من نظام سياسي وثقافيّ، واعتبار جرائمه كأعراض أو عيوب في هذا النظام؛ فـ بَندي أشبه بتوليفة خطأ خفيّة في هذا النظام، الذي يعد مواطنيه بالأمان والتسلية وإمكانية الشهرة، وخصوصاً الطبقة الوسطى، تلك التي تستهلك المنتجات الثقافيّة وتتغذى على وعودها، وهذا ما نراه في حياة بندي قبل أن يصبح قاتلاً؛ إذ لا تحوي حياته صدمات أو نزعات عنيفة، هو كالجميع، درس في الجامعة وشارك في حزب سياسيّ (كان جمهورياً مُحافظاً)، وظهر على الأخبار في عدة تقارير كأي مواطن يتورط في الأحداث العامّة.

لكن المشكلة، أنه دوماً كان أقل بدرجة من العادي، لم ينل دقائق شهرته التي يعده النظام بها، بل كان دوماً عابراً يمكن نسيانه، مبتذلاً كأي حالم بالشهرة يتهشم حلمه أمام أول مواجهة، بسبب عمله ضمن قنوات هذا النظام، كما حدث حين اتُّهم بالتجسس السياسيّ بين الأحزاب.

يهدد بندي النظام القائم، القضائي والثقافيّ، لا بوصفه عدواً له، بل واحداً من المنتمين إلى الكتلة المتجانسة التي يُراهن عليها النظام ذاته. هو واحد من أولئك الذين لا يشكّلون خطراً، المستهلكين المثاليين والثوريين المثاليين، المتظاهرين ضد حرب فيتنام وممارسي الجنس العشوائي. فالتكنولوجيا بمعناها الواسع، قضائياً وعلمياً، لم تكن متطورة كفاية لفهم ما يمكن أن تحمله هذه الكتلة البشريّة من عيوب.

هنا يتضح ذكاء وسايكوباتيّة بندي، هو يعي عيوب النظام الذي يخضع له، إذ "درس" آليات سيطرته وطريقة عمله، والأهم أنه لا يأخذها على محمل الجدّ، وهذا ما ينعكس في موقف النظام منه، الذي أفلت منه هارباً، بسهولة، لا مرة بل مرتين؛ فأدوات التفسير التي كانت موجودة جعلت النظام والمؤمنين بها، الذين يُكسبونه شرعيته لا يصدقون بأنه هو، بندي، من قتل وشوّه واغتصب، وكأن رادار الخطر لدى النظام - أي أجهزته والبشر المسؤولين عنه - غير فعّال أو لا يلتقط العيوب، فمصطلح القاتل المتسلسل لم يكن متداولاً حينها.

تكمن "أهمية" بَندي بأنه خطأ غير متوقع، أو لم يُرصد بعد، ما جعله يتحول إلى وسيلة لمساعدة النظام القائم على تفادي أخطائه المستقبليّة وتحسين ذاته؛ إذ نرى كيف ساعد المحققين في اكتشاف، أو فهم، قتلة متسلسلين غيره، وتطوير نظام التصنيف الجنائيّ ولغته، ليتحول إلى موضوعة علميّة - جنائيّة، لكونه يكشف عن مجموعة من الخصائص والأنماط التي لم تكن مألوفة؛ فـ بندي استفاد من سذاجة النظام الخاضع له، وقلة حيلته، ليبرز بوصفه مميزاً، علماً أنه يشابه الجميع، وهذا ما يتجلى برغبته بالاعتراف قبل إعدامه بأيام.

هذه السذاجة والتأخر التقنيّ اللذان يبدوان منطقيين تاريخياً، يجعلان القتل والتشويه والاغتصاب الذي يمارسه بندي أشبه بعارض (Side effect) على عيوب التجانس، وكأنه يهزأ من عيوب العالم ويلعب مع ضحاياه، يتعامل معهم ومع النظام كأضحوكة، مؤكداً أن سيادته على ذاته أشدّ من سيادة النظام القانونية والثقافية عليه؛ فهو لا يرى نفسه قاتلاً، ولا يستحق السجن، وهذا ما يتضح في المحاكمة العلنية، التي يقودها أحياناً بَندي و"يلعب" بإيقاعها ويسخر من جدّيتها، كتغيبه عن واحدة من الجلسات وطلبه الزواج بواحدة من الشهود.

يرى الرجل ما يحصل كلعبة غير مُتقنة، وكلما ازداد عدم إتقانها ازدادت وحشية جرائمه، وكأن جرائمه وما قام به هما بمثابة تأريخ للفشل، لا فشله الذاتيّ، بل فشل النظام الخاضع له، وهشاشة سطوته على مواطنيه الذين يعدهم بالسعادة.

وهنا يبرز علم النفس، الذي يقول إن بندي عنده خلل كيميائي في دماغه، هو بالأصل ليس طبيعياً قبل أن يكون موضوعة سياسيّة، فالطبّي يأتي ليعيد تعريفه وتحويله إلى نموذج وأداة للقياس والتفسير، لتتحول جرائمه إلى موضوعات للدراسة وتطوير السيطرة والهيمنة وأنظمة إثبات الجريمة، لا لإعادة النظر في الشروط التي أنتجتها سياسات التجانس.

استفاد بندي أيضاً من أدائه العلنيّ، وهنا نكرر أننا لا نناقش الجريمة كجريمة، بل ما يحيط بها، وتحوله إلى رمز في الثقافة الشعبيّة، تُطبع صورته على القمصان ويتجمهر الناس خارج مكان إعدامه، يتمونون له موتاً قاسياً.

هنا، نعود إلى التأويل التقليديّ لمفاهيم الأضحية والقتل؛ لا بدّ من موت بَندي ليُختزل العنف الكامن، الذي يضبط المتجانسين ويطبعهم، بوصفه احتمالاً جديداً لخطأ مستقبليّ، فموته يعيد الاستقرار للنظام العام، لكونه كشف عن واحد من عيوبه، ولا بدّ من كرنفال علنيّ تتداخل فيه العدالة مع اللعب، ليعود التوازن.

المساهمون