في خضم الأزمة السياسية التونسية، وفي قلب الصراعات التي تعصف بالمشهد منذ أشهر، أو بالأحرى منذ سنوات، يتناسى المسؤولون التونسيون الحزبيون والرسميون، كلهم بدون استثناء، أنهم جاؤوا إلى مناصبهم بتفويض من الشعب، لخدمة الشعب، وأن مواقعهم، رئاسة وحكومة وبرلماناً ووزارات وإدارات، إنما هي للشعب وملك خالص له، وأن دور المسؤول الرئيسي هو صيانة هذه المكاسب والتفكير في نمائها من أجل أبناء الشعب الذي انتخبه. ولذلك يخرج هؤلاء في الحملات الانتخابية يعرضون أنفسهم وشعاراتهم لخدمة الشعب، ويتنافسون على إقناعه بإخلاصهم وتفانيهم ونظافة أيديهم. يتوسلون، وليس في الأمر من مبالغة، ولا هو مجاز، أن يمنحهم الشعب أصواته. وهذه الفترة من أكثر الفترات التي يحسّ فيها الشعب بأنه السيّد الفعلي للبلاد، وأن الدولة هي فعلاً للشعب.
ولكن ما يحدث في تونس طيلة الفترة الأخيرة يظهر بلا شك أن مفهوم المسؤولين لفكرة الدولة مقلوب، يتصرفون مع الشعب وكأنه قطعة بلا أهمية، يتلاعبون به وبمصالحه من أجل خلافاتهم سياسية وحرب تموقعهم، وسؤالهم الوحيد "من يحكم هؤلاء" وليس "كيف نخدم هؤلاء؟".
وإلا فما دخل الشعب في معركة الشرعية والمشروعية وتفاصيل معركة النظام السياسي فكرياً، وكيف تقسم السلطات وكيف يتم التشاور بين الأحزاب؟ وما ذنبه في السجال بين رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة الذي تعطلت بسببه البلاد وتوقف إنتاج الفوسفات والبترول؟ وما شأنه بخلاف أحزاب النهضة والتيار والشعب حول فكرة حكومة البرلمان أو حكومة الرئيس؟ غرض الشعب أن تكون له حكومة ورجاؤه أن تكون فاعلة تنصت لآلامه التي ثار من أجلها وتجد لها حلولاً حتى لا يثور من جديد.
تتناقل صفحات فيسبوك في تونس أن شاباً تونسياً نجح في امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة)، ولكنه تلقى خبر نجاحه من عائلته وهو في إيطاليا بعد أن هاجر إليها سرّاً. وما أكثر العائلات التونسية التي أصبحت تغامر بكامل أفرادها بحراً لتصل إلى جزيرة لامبيدوزا. لماذا؟ لأنها ببساطة لم تعد تؤمن أن الدولة، دولتهم، ملك للشعب، وإنما أصبح المواطنون ملكاً لها، ولذلك يبحث بعض الناس عن الحرية وتجديد الأمل في الحياة. وعلى الرغم من أن تجربة الهجرة قد تنهي الحياة أصلاً، لكن السواد الأعظم من التونسيين، عندما أحسّ منذ عشر سنوات أن الدولة سُرقت منه وانتهى أمله من الإصلاح، قلب الطاولة على الجميع واسترجع حقه في ملكه، ولا أظن هؤلاء يفهمون أو يعون…