الرئاسة التونسية، التي حددت موعداً لتشكيل الحكومة قبل عيد الفطر (خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو/تموز المقبل)، كانت قد طالبت جميع الأحزاب والمنظمات بتقديم وثائق مكتوبة لاقتراحاتها حول أولويات الحكومة المقبلة ومن ثمّ صياغة وثيقة تأليفية تجمع بين كل المقترحات الواردة والتنسيق بينها، بحيث تشكل أرضية عمل تلزم أطراف الحوار بها بعد ذلك.
ويبدو الأمر في غاية الصعوبة بسبب تعدد واجبات هذه الحكومة أمام الأوضاع المتردية من جهة، وتباين المشاريع المقترحة من الأحزاب والمنظمات التي يعرف الجميع اختلافها حول تشخيص الأزمة التونسية وحلولها المثلى منذ سنوات من جهة ثانية.
وتسبب هذا التباين بنسبة كبيرة في الوضع الاجتماعي والاقتصادي الراهن، وقاد إلى هذه الوضعية السياسية التي يحاول المتحاورون حلّها، بنوايا مختلفة وحسابات متقاطعة.
وأمام ثقل الأزمة التي عددت مواصفاتها جميع الأحزاب، وأمام ضيق الفترة الزمنية التي وضعها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أمام محاوريه، يبدو من الصعب جداً إنهاء جميع المشاورات بشأن الحكومة قبل عيد الفطر، إن على مستوى المضامين أو بخصوص الحكومة نفسها ورئيسها الجديد، بالنظر إلى التجارب السابقة التي أخذت أشهراً ريثما تم الاتفاق على اسم رئيس الحكومة المنتظر.
وإذا تم الافتراض أن ينتهي وضع برنامج الأولويات هذا الأسبوع، فسيكون على السبسي والمتحاورين الاتفاق حول مواصفات رئيس الحكومة الجديد، وهو أيضاً أمر في غاية الصعوبة، إلا إذا كان السبسي يخفي في ملفاته اسم هذه الشخصية.
على الرغم من ذلك، سيكون السبسي مجبراً على الحصول على دعم المشاركين وموافقتهم، أو سيكون أمام وضعية تهدد بنسف كل المسار.
ويدرك الرئيس التونسي أنه سيحتاج إلى ضوء أخضر من أهم مكونات الحوار، حزب نداء تونس، وحركة النهضة، والاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمة رجال الأعمال.
كما أن موافقة البقية هي بمثابة الكماليات الضرورية لأنها ستمنح هذه الحكومة صفة الوحدة الوطنية وستعطي انطباعاً بأن الرئيس نجح في توسيع التحالف وإقناع أطراف جديدة بالمشاركة في حل الأزمة. لكن عقدة الموضوع تظل مرتبطة بالأطراف الأولى التي يمكنها أن تقنع البقية.
ويصطدم السبسي بجملة من العوائق بحثاً عن هذه المعادلة الصعبة في رئيس حكومته الجديد. أولها أن يكون مقبولاً من كل هذه المكونات، وأن يكون قادراً على قيادة حكومة حرب اقتصادية بتركيبة وهيكلة جديدة، وأن يستطيع التواصل مع التونسيين، على عكس خلفه الحبيب الصيد، الذي فشل في هذا الأمر بالنسبة إلى السبسي. كما أن الصيد، من وجهة نظر السبسي، كان يفتقر إلى خبرة اقتصادية كبيرة تؤهله لإدارة أزمة بهذه القوة.
ويبدو شرط موافقة الأطراف الهامة المذكورة أمراً صعباً للغاية، بحكم الاختلاف المعروف بين منظمتي رجال الأعمال وحزب آفاق الليبيرالي و"اتحاد الشغل" من جهة، وتباين نظرة الأحزاب الأساسية في الائتلاف حول هذه الشخصية من جهة ثانية. وقد أعلن حزب نداء تونس، بوضوح منذ البداية عن رغبته في تغيير الصيد وتقديم مرشح جديد، بينما لمحت حركة النهضة إلى أنها لا تعارض بقاء الصيد على الرغم من أنها تطرح في الوقت نفسه إمكانية تغييره. وهو موقف السبسي نفسه الذي أعلنه منذ إطلاق مبادرته. كذلك يصب موقف نقابة "اتحاد الشغل" في هذا الاتجاه.
وتشترط "النهضة" في رئيس الحكومة الجديد أن يكون شخصية مستقلة لا ينقلب عليها، ويكون "مطمْئِناً" للجميع، على حد تعبير قيادي كبير فيها تحدث لـ"العربي الجديد".
يقول القيادي نفسه إن الصيد نجح في أداء هذا الدور إلى حد كبير، وربما يكون دفع ثمن هذا الحياد النسبي، بالإضافة إلى أن تغييره في البرلمان إذا رفض الاستقالة، سيكون مصدر قلق للجميع.
ولكن هل يستطيع السبسي أن يقف في وجه غالبية حزبه نداء تونس الذي يريد تغيير الصيد؟ أم سيكون عليه إقناعهم من جديد؟ وكيف سيكون مستقبل العلاقة بين النهضة وشق "النداء" الذي يريد إزاحة الصيد، وخصوصاً أنه التيار الذي ظلت "النهضة" تدعمه على امتداد أزمة "النداء"، وهو التيار الذي يتزعمه حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس التونسي.
وهل يقبل السبسي بكل "مساوئ الصيد" التي عدّدها بنفسه ويبقي عليه رئيساً للحكومة على مضض. وكان السبسي قد تطرق إلى سلبيات الصيد وخصوصاً في ما يتعلق "بقلة الحزم، وفشل التواصل، ومحدوديته في المجالات الاقتصادية".
وأمام هذه الوضعية المعقدة، تتزايد صعوبة البحث عن بديل للصيد من بين الأسماء المطروحة حالياً، إلا إذا فاجأ الجميع باسم جديد مثلما حدث إبان الحوار الوطني، عندما خرج اسم المهدي جمعة من حيث لم ينتظره أو يتوقعه أحد.
ويبدو اسم عبدالكريم الزبيدي جامعاً لبعض الخصال المطلوبة من رئيس الوزراء الجديد، أهمها طمأنة الأطراف المختلفة، وفي مقدمتهم النهضة، التي كانت عبّرت عن قبولها بإدارته الحكومة قبل تعيين الصيد. لكن الزبيدي طبيب ولا خبرة اقتصادية كبيرة له. وربما يكون حاتم بن سالم، مدير معهد الدراسات الاستراتيجية، أكثر حظوظاً منه في هذا المستوى، لكنه قد لا يلقى ترحيباً كبيراً من "اتحاد الشغل" تحديداً بسبب عمله في وزارتي الخارجية والتعليم قبل الثورة.
وأمام جميع هذه الصعوبات، بدأت بعض الأصوات التي تستعجل إنهاء الأزمة تدعو إلى الاكتفاء بالموجود والإبقاء على الصيد على الرغم من الانتقادات. لكن قرارا كهذا لن يُحدث "الصدمة الإيجابية" التي يبحث عنها السبسي ولن يحدث المفعول النفسي الذي يقتضيه التغيير في العمل السياسي وبثّ روح أمل جديدة تعيد التونسيين إلى العمل وتحمل بالخصوص رسالة إلى الجميع بأن مرحلة "قتل المؤسسات" قد انتهت وهو جوهر المبادرة الرئاسية.