أصبحت حكومة هشام المشيشي في حكم المجهول، قبل ثلاثة أيام فقط من توجهها لنيل ثقة البرلمان في جلسة الثلاثاء المقبل. وتتناقل الكواليس في تونس سيناريوهات متناقضة، من المصادقة عليها، إلى حد تراجع المشيشي عن التوجه إلى البرلمان.
وتشير الوقائع والمصادر الحزبية المتطابقة التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، إلى أن هناك خلافاً واضحاً وكبيراً طرأ على العلاقة بين الرئيس قيس سعيّد ورئيس الحكومة الذي كلفه تشكيل الحكومة، هشام المشيشي.
وشكّل استقبال سعيّد، الخميس الماضي في قصر قرطاج، لكلّ من رئيس حكومة تصريف الأعمال إلياس الفخفاخ، والمرشح المستقيل والمقال من حقيبة وزارة الثقافة وليد الزيدي، ثم لرئيس البرلمان ورئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي، رسائل واضحة تؤكد أن هناك تغيّراً في موقف سعيّد من المشيشي، وأنه بصدد البحث عن بديل في اللحظات الأخيرة.
وحمل اللقاء بين سعيّد والفخفاخ حديثاً عن "ضرورة تحقيق الاستقرار السياسي بما يضمن تحقيق ما ينتظره الشعب التونسي وتطلعاته المشروعة في التنمية والكرامة الوطنية"، في ظل استغراب كل المتابعين من حديث عن الاستقرار مع رئيس حكومة لم تبقَ لديه إلا أيام قليلة قبل تسليم العهدة.
تؤكد مصادر حزبية متقاطعة لـ"العربي الجديد" أن سعيّد طمأن الغنوشي أنه لن يذهب لخيار حلّ البرلمان إذا ما تم إسقاط حكومة المشيشي
وشكّل استقبال الرئيس لوليد الزيدي أيضاً خبراً صادماً للجميع، خصوصاً بعد قرار المشيشي صباحاً استبعاده عن تشكيلته الحكومية، إلا أن سعيّد "نوه بحصول وليد الزيدي على الدكتوراه في الآداب في سابقة لم تشهدها تونس"، مشيداً "بما يتميز به من مثابرة ومن قدرة على تجاوز الصعاب". وأشار إلى أن "الإعاقة البصرية لم تمثل عائقاً يحول بينه وبين طلب العلم والتميز".
وبحسب بلاغ للرئاسة، فقد "أعرب عن تثمينه ودعمه ترشيح وليد الزيدي لمنصب وزير الشؤون الثقافية، مؤكداً ثقته بأنه جدير بتولي هذه المسؤولية، وأشار إلى أنها تجربة أولى في تونس سيؤكد من خلالها وليد الزيدي أنه عنوان المثابرة والتحدي والجدارة بتولي هذا المنصب"، وهو ما يعني أن الرئيس تجاهل تماماً قرار المشيشي باستبعاده، وأنه لاعب رئيسي في تشكيل الحكومة.
وجاء بعد ذلك استقبال الغنوشي، وتؤكد مصادر حزبية متقاطعة لـ"العربي الجديد" أن سعيّد طمأن ضيفه إلى أنه لن يذهب لخيار حلّ البرلمان إذا ما أُسقِطَت حكومة المشيشي، وهو ما أكده أيضاً لـ"العربي الجديد" رئيس ديوان الرئيس الأسبق منصف المرزوقي ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية للمغرب العربي عدنان منصر، الذي أوضح أن هناك معلومات تؤكد أن هناك توافقاً ما، نقطة ارتكازه هي إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة الحالي، الذي قد يبقى رئيساً للحكومة مع تشكيل جديد لن يرفع فيه الفيتو هذه المرة على "قلب تونس".
وكان منصر قد كتب عبر صفحته على "فيسبوك" أن هناك "مؤشرات على تغييرات عميقة بين الرئيس والمشيشي والبرلمان. ولم يعد بإمكان أحد اليوم القول إن الخلاف بين رئيس الجمهورية والمكلف تشكيل الحكومة الجديدة هو محض إشاعة. لقد تكفل السيد رئيس الجمهورية نفسه بإخراج هذا الخلاف للعلن… والأمر المتأكد أن السيد المشيشي لم يعد يحظى بدعم الرئيس الذي كلفه تشكيل الحكومة".
واعتبر منصر أن "إمعان الرئيس في الحط من قرارات السيد المشيشي باستبعاد مرشحين لبعض الحقائب الوزارية، وفرض مرشحين آخرين/ قد يعجّل بالقطيعة قبل الجلسة الموعودة، بل ربما لم يعد الرئيس راغباً في نيل الحكومة الثقة أصلاً إذا كان ذلك هو معنى الإشارات التي أطلقها نحو بعض ضيوفه الهامّين بأنه لا يعتزم حلّ البرلمان مهما كان مصير جلسة يوم 1 سبتمبر".
Posted by عدنان منصر - Adnen Manser on Friday, August 28, 2020
ووصف الغنوشي، في تصريح عقب الجلسة مع سعيّد، الخميس، اللقاء بالمثمر، معتبراً أنّ من شأنه أن يساهم في تطوير العلاقة بين مؤسسات الدولة بما يخدم استقرار البلاد.
وبحسب معلومات لـ"العربي الجديد"، فإن المشيشي منزعج جداً من وضعه الحالي ومن طريقة معاملته، وقد يكون أسرّ في بعض لقاءاته بنيّته في الانسحاب، خصوصاً أنه أصبح محاصراً من الرئيس الذي اقترحه، ولم يعد يرغب فيه، ومن الأحزاب التي ترفضه.
وتطرح هذه الوضعية الجديدة فرضيات مختلفة في حيّز زمني ضيق للغاية، ستوضحها عطلة نهاية الأسبوع وما ستشهده من لقاءات ومشاورات سرية.
وتتداول الكواليس أن الرئيس سعيّد، في حال حسم علاقته بالمشيشي، لا يملك في هذا الظرف الدستوري خيارات كثيرة، لأن تشكيل الحكومة ومصيرها أصبحا بيد البرلمان، وهو في هذه الحالة لا خيار أمامه إلا إقناع الأحزاب بإسقاطها، أو دفع المشيشي إلى التراجع والانسحاب، أو إقناع عدد من الوزراء المرشحين المقربين منه بالانسحاب قبل جلسة المصادقة.
لكن هذه الوضعية قد تدفع في المقابل بعض الأحزاب المتوجسة من الرئيس ومشاريعه، إلى احتضان المشيشي وحكومته والمصادقة عليها، في إطار اتفاق على منحه فرصة في أفق زمني محدود يجري بحث برنامجها وتفاصيله بعد ذلك.
وفي هذا الاتجاه، سيكون قرار "حركة النهضة" حاسماً، وسيكون اجتماع مجلس شوراها (يُفترض أن ينعقد الاثنين القادم)، محدداً للخيار النهائي للحركة. وقال قيادي في الحركة لـ"العربي الجديد" إن هناك تياراً يدفع إلى عدم التصويت للحكومة والانضمام إلى المعارضة، فيما يدافع التيار الثاني عن خيار المصادقة على الحكومة وعدم الذهاب إلى المجهول والتلاعب بمصير البلاد، لأنه لا ضمانات لدى الحركة إذا ما أُسقِطَت الحكومة.
وأمام هذه السيناريوهات "الهيتشكوكية" المتضاربة، ينتظر التونسيون من الرئيس سعيّد أن يوضح موقفه من المشيشي، خصوصاً أن آخر لقاء بينهما كان يوم 24 أغسطس/ آب الماضي، كما توضحه الصفحة الرسمية للرئاسة، ويتساءل كثيرون عمّا إذا كان الرئيس سيرضى بسقوط المشيشي في أحضان "النهضة" والجبهة البرلمانية الجديدة التي تجمعها بـ"ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس" أو أنه سيسارع إلى تصحيح الأوضاع، ولو متأخراً.